أثر التضخم النقدي في انقطاع الحول.. اعتبار كمال النصاب في جميع الحول فيه مشقة على أهل الأموال لا سيما مع كثرة اضطراب قيمة الأوراق النقدية التبادلية



أجمع العلماء من حيث الجملة على اشتراط الحول لوجوب زكاة النقدين: الذهب والفضة، وما يقدّر نصابه بهما كعروض التجارة([1]).
ومما لا خلاف فيه بين القائلين بوجوب الزكاة في الأوراق النقدية أنه يشترط لوجوب الزكاة فيها مضي الحول([2]).

تقدم أن التضخم النقدي يرفع قدر نصاب الأوراق النقدية، وتختلف درجة هذا الارتفاع في النصاب باختلاف نسبة التضخم النقدي. ففي التضخم النقدي الجامح يكون الارتفاع عالياً، وفي التضخم النقدي السريع يكون الارتفاع متوسطاً، وفي التضخم النقدي الزاحف يكون الارتفاع طفيفاً.
فهل نقص النصاب بهذه الارتفاعات يقطع الحول أو لا؟

الذي يظهر للباحث أن هذه المسألة تخرّج على ما ذكره أهل العلم في نقص نصاب عروض التجارة؛ لأن نصاب عروض التجارة يعتبر فيه أن تبلغ قيمتها قيمة نصاب الذهب أو الفضة، وهذه هي الحال في تقدير نصاب الأوراق النقدية.
فتتخرج مسألة نقص نصاب الأوراق النقدية على نقص نصاب عروض التجارة.

وقد اختلف الفقهاء في نقص النصاب الذي ينقطع به حول عروض التجارة على ثلاثة أقوال:

- القول الأول: أن نقص النصاب أثناء الحول يقطعه. وهذا قول عند الشافعية([3])، وهو المذهب عند الحنابلة([4])، إلا إنه يعفى عندهم عن نقصه نصف يوم([5]).

- القول الثاني: أن نقص النصاب أثناء الحول لا يقطعه إذا كان النصاب تاماً في طرفي الحول، وهذا هو المذهب عند الحنفية([6])، وهو قول عند الشافعية([7]).

- القول الثالث: أن المعتبر في النصاب وجوده في آخر الحول فقط، ولا يؤثر نقصه قبل ذلك بعد وجود أصله، وهذا هو المذهب عند المالكية([8])، والأظهر عند الشافعية([9]).

وعلى هذا يمكن القول بأن انقطاع الحول بنقص نصاب الأوراق النقدية بسبب التضخم النقدي فيه الأقوال الثلاثة المتقدمة مهما كانت درجة هذا التضخم النقدي سواء كان مفرطاً أو سريعاً أو زاحفاً ما دام أنه ينقص النصاب، إلا أن قول الحنابلة يعفى عن نقص نصف يوم لا يتناسب مع طبيعة التضخم النقدي؛ وذلك لأن انخفاض القيمة التبادلية للنقود في حالات التضخم النقدي مستمر لمدد طويلة، فلا يتأتى هذا القول في التضخم النقدي.

وللوصول إلى الراجح من هذه الأقوال نستعرض ما يمكن أن يستدل به من الأدلة في مسألة انقطاع الحول بنقص النصاب في عروض التجارة([10])، مما يتناسب مع الانقطاع الحادث بسبب التضخم النقدي.

أدلة القول الأول:

استدل أصحاب هذا القول بما رواه علي([11]) (ض) قال: قال رسول الله (ص): (ليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول)([12]).

- وجه الدلالة:
أن قوله (ص) في الحديث: (في مال) نكرة في سياق النفي، فيفيد العموم في جميع ما تجب فيه الزكاة من الأموال، ولا يخرج عن هذا شيء من الأموال إلا ما دلّ الدليل على عدم اعتبار الحول لزكاته. وذلك لأن النكرة في سياق النفي تفيد العموم([13]).

ومما لا ريب فيه أن الأوراق النقدية مال يشترط لوجوب الزكاة فيه النصاب والحول، فوجب اعتبار كمال نصابه في جميع الحول. فإذا نقص المال عن النصاب فإنه لم يحل عليه الحول، فلا تجب فيه زكاة حينئذٍ.

نوقش هذا الاستدلال بأمرين:

- الأول: أن الحديث ضعيف([14])، فلا يحتج به.
يجاب على هذا: بالمنع، وأن الحديث صحيح، وقد جاء من طرق متعددة عن غير واحد من الصحابة([15]) رضي الله عنهم. ويعضده آثار صحيحة عن كثيرين من الصحابة بل أجمع التابعون والفقهاء عليه([16]).

- الثاني: أن اعتبار ذلك شاق؛ لكثرة اضطراب القيم، ولكونه يحوج إلى ملازمة السوق ومراقبتة دائمة([17]).
يجاب على هذا: بأن نقص النصاب بسبب اضطراب القيم لا يخلو: إما أن يكون ظاهراً فهذا لا حاجة فيه إلى تقويم لظهوره، وإما أن يكون محتملاً فعلى صاحب المال أن يقوّم ما عنده من الأوراق النقدية إن سهل، و إلا فليعمل بالأصل، وهو بقاء الوجوب؛ لأن الأصل بقاء ما كان على ما كان([18])، وفي هذا عمل بالأحوط([19]).

أدلة القول الثاني:

استدل أصحاب هذا القول بما يأتي:
- أولاً: (أن كمال النصاب شرط لوجوب الزكاة، فيعتبر وجوده في أول الحول وآخره لا غير؛ لأن أول الحول وقت انعقاد السبب، وآخره وقت ثبوت الحكم، فأما وسط الحول فليس بوقت انعقاد السبب ولا وقت ثبوت الحكم فلا معنى لاعتبار كمال النصاب فيه، إلا أنه لا بد من بقاء شيء من النصاب الذي انعقد عليه الحول؛ ليضم المستفاد إليه. فإذا هلك كله لم يتصور الضم، فيستأنف له الحول)([20]).

نوقش هذا: بأن نقصانه أثناء الحول ينقض الانعقاد المتقدم. ولذلك لو تم الحول على ما نقص نصابه لم يجب فيه شيء. فدل هذا على أن انتقاض السبب بعد وجوده ينتقض به الحكم.

- ثانياً: أن اعتبار كمال النصاب في جميع الحول فيه مشقة على أهل الأموال لا سيما مع كثرة اضطراب قيمة الأوراق النقدية التبادلية.

نوقش: بما تقدم من أن نقص النصاب لا يخلو: إما أن يكون ظاهراً فهذا لا حاجة فيه إلى تقويم لظهوره، وإما أن يكون محتملاً فعلى صاحب المال أن يقوّم ما عنده من الأوراق النقدية إن سهل، و إلا فليعمل بالأصل، وهو بقاء الوجوب؛ لأن الأصل بقاء ما كان على ما كان، وفي هذا عمل بالأحوط.

أدلة القول الثالث:
استدل أصحاب هذا القول بما يأتي:

- أولاً: أن كمال نصاب الأوراق النقدية في أول الحول ليس شرطاً لوجوب الزكاة قياساً على عروض التجارة([21]) بجامع أن المرجع في تقدير نصابهما إلى الذهب والفضة.

نوقش من وجهين:

+ الأول: أن في المقيس عليه خلافاً كما تقدم، ومن المعلوم أن من شروط صحة القياس أن يكون الأصل المقيس عليه متفقاً على حكمه([22]).
+ الثاني: أنه قياس في مقابلة النص، وهو قول النبي r: ((ليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول))([23])، فلا عبرة به؛ إذ الإجماع منعقد على أنه لا يجوز مقابلة النص بالقياس([24]).

- ثانياً: أن المعتبر هو وقت الوجوب، وهو آخر الحول، فلا يعتبر غيره؛ لكثرة اضطراب القيم([25])؛ إذ (القيمة تزيد وتنقص في كل ساعة؛ لتغير السعر ولكثرة رغبة الناس وقلتها وعزة السلعة وكثرتها فيشق تقويم المال كل يوم)([26]).

نوقش هذا: بما تقدم في أدلة القول الأول من أن كمال النصاب معتبر في جميع الحول؛ لعموم الحديث.
وأما مشقة التقويم فقد تقدم الجواب عليها.

الترجيح:

الراجح فيما يظهر أنه إذا نقص نصاب الأوراق النقدية بسبب التضخم النقدي أثناء الحول بأي نسبة كانت فإن الحول ينقطع بذلك.
فإذا كمل نصاب الأوراق النقدية بعد ذلك استأنف به حولاً جديداً.
هذا هو الراجح من هذه الأقوال؛ لقوة أدلته، وسلامتها من المناقشات، والله تعالى أعلم.

([1]) ينظر: بداية المجتهد (1/261)، شرح النووي على صحيح مسلم (4/325)، المغني (4/75).
([2]) ينظر: فقه الزكاة للقرضاوي (1/278).
([3]) ينظر: المجموع شرح المهذب (6/54)، حاشية قليوبي وعميرة (2/27).
([4]) ينظر: كشاف القناع (2/177)، شرح منتهى الإرادات (2/186-187).
([5]) هذا هو المذهب في قدر ما يعفى عنه من النقص، وهو أحد الوجوه، وفي وجه يعفى عن ساعتين، وهناك أوجه أخرى. وفي وجه أنه لا يعفى عن النقص مطلقاً.
[ ينظر: الفروع (3/339)، الإنصاف (3/29)].
([6]) ينظر: المبسوط (2/172)، بدائع الصنائع (2/15-16).
([7]) ينظر: نهاية المحتاج (3/101)، حاشية البجيرمي على الخطيب (2/301).
([8]) ينظر: المنتقى شرح الموطأ للباجي (2/98، 122)، مواهب الجليل (2/304).
([9]) ينظر: الحاوي الكبير للماوردي (2/115، 175)، روضة الطالبين (2/267).
([10]) ينظر: تبيين الحقائق (1/280)، حاشية الدسوقي (1/461)، المجموع شرح المهذب  (6/54)، المغني (4/78، 252).
([11]) علي بن أبي طالب بن عبد المطلب، ابن عم النبي r، أول من أسلم من الصغار، وزوج ابنته فاطمة رضي الله عنها، ورابع الخلفاء الراشدين، قتل t سنة (40هـ).
[ينظر: الإصابة في تمييز الصحابة (2/507)، أسد الغابة (3/588)].
([12]) أخرجه أبو داود، في كتاب الزكاة، باب في زكاة السائمة، رقم (1573)، ص (246)، والبيهقي في سننه، باب لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول (4/95).
وقال عنه الحافظ ابن حجر ~ في البلوغ رقم (627): ((وهو حسن، وقد اختلف في رفعه))، وقال في التلخيص الحبير رقم (821) (2/156):((حديث علي لا بأس بإسناده والآثار تعضده، فيصلح للحجة))، وقال عنه الزيلعي ~ في نصب الراية (2/328): ((فالحديث حسن، قال النووي ~ في الخلاصة: وهو حديث صحيح، أو حسن)).
([13]) ينظر: تيسير التحرير (1/329) ، المستصفى (2/90) ، شرح الكوكب المنير (3/136).
([14]) ينظر: السنن الكبرى للبيهقي (4/95)، المجموع شرح المهذب (5/360)، خلاصة البدر المنير (1/291)، مصباح الزجاجة (1/50).
([15]) ينظر: نصب الراية (2/328-330)، إعلاء السنن (9/3)، إرواء الغليل (3/254-258).
([16]) ينظر: بداية المجتهد (1/270)، المجموع شرح المهذب (5/360)، تحفة المحتاج (3/233).
([17]) ينظر: الجوهرة النيرة (1/124-125)، نهاية المحتاج (3/101)، أسنى المطالب (1/352).
([18]) ينظر: التمهيد تخريج الفروع على الأصول ص (489)، قاعدة اليقين لا يزول بالشك للدكتور الباحسين ص (104).
([19]) ينظر: المغني (4/252).
([20]) بدائع الصنائع (2/16).
([21]) وقد قاسوا عروض التجارة في ذلك على نسل الغنم، وفي الأصل المقيس عليه خلاف أيضاً.
[ينظر: كتاب تهذيب المسالك في نصرة مذهب مالك (2/385)، بداية المجتهد (1/271)، الذخيرة للقرافي للقرافي للقرافي للقرافي (3/33)].
([22]) ينظر: كشف الأسرار (3/333)، شرح الكوكب المنير (4/27).
([23]) تقدم تخريجه ص (145).
([24]) ينظر: الفصول في الأصول للجصاص (2/319)، كشف الأسرار (4/40)، الإبهاج في شرح المنهاج (3/70).
([25]) ينظر: مغني المحتاج (1/397)، حاشية قليوبي وعميرة (2/27).                     
([26]) بدائع الصنائع (1/16).


مواضيع قد تفيدك: