ملكية المودَع للسفر بالوديعة.. له السفر بها إن كانت المسافة قصيرة، وإن كانت طويلة فليس له ذلك فيما له حمل ومؤنة



ملكية المودَع للسفر بالوديعة:
المودَع إذا خاف على الوديعة في سفره، أو نهاه المالك عن السفر بها، فليس له ذلك، وإن فعل فهو ضامن.
وهو قول المالكية، والحنفية، والشافعية، والحنابلة.
لأنه إن سافر بها والحال هذه فهو مفرط أو مخالف.
وأما إذا لم يخف عليها، وكان صاحبها لم ينهه عن السفر بها، أو كان أحفظ لها، فاختلف العلماء هنا على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن له السفر بها ولو كان ربها حاضراً.
وهو قول بعض الحنفية، وقول عند الحنابلة.
أدلتهم:
الدليل الأول: أنه نقلها إلى موضع مأمون فلم يضمنها كما لو نقلها في البلد، وكأب ووصي لا كمستأجر لحفظ شيء.
ويناقش:
بأنه قياس مع الفارق، لأن احتمال التلف والضياع - ولو مع الأمن - في السفر خارج البلد أكثر منه داخل البلد كما هو معلوم، فلا يقاس أحدهما على الأخر.
الدليل الثاني: أنه سافر بها سفراً غير مخوف، أشبه ما لو لم يجد أحداً يودعها عنده.
ويناقش:
بأنه قياس مع الفارق، لأن هناك فرقاً بين ما إذا وجد من توضع عنده من حاكم أو ثقة وبين ما إذا لم يجد، فإنه إذا لم يجد كانت الحال حال ضرورة فيصح السفر بالوديعة ، بخلاف ما إذا وجد.
الدليل الثالث: أن الأمر بالحفظ صدر مطلقاً عن تعيين المكان، فلا يجوز التعيين إلا بدليل.
ويناقش:
بأنه يمكن تقييده بالعرف، والعرف إنما هو الحفظ في حرز المثل في المكان الذي يسكنه المودع.
القول الثاني: أنه إذا سافـر بها مع القـدرة على مالكهـا أو نائبه بغير إذنه فهو مفرط عليه الضمان وهو قول المالكية، وقول عند الشافعية، و المشهور عند الحنابلة.
أدلتهم:
الدليل الأول: حديث : "إن المسافر وماله لعلى قلت إلا ما وقى الله"، أي على هلاك.
الدليل الثاني: أنه يفـوت على صاحبها إمكـان استرجاعها ويخاطر بها.
وأما عند عدم المالك ووكيله فله السفر بها إذا كان أحفظ لها، لأنه موضع حاجة فيختار فعل ما فيه الحظ.
ولأنه إذا لم يسمح له بالسفر بها أنقطع عن السفر، وتعطلت مصالحه، وكان ذلك منفراً عن قبول الودائع.
القول الثالث: أنه ليس له السفر بها.
وهو لبعض المالكية، وبعض الشافعية.
أدلتهم:
الدليل الأول: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن المسافر وماله لعلى قلْت إلا ما وقى الله" يعني على خطر.
الدليل الثاني: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "السفر قطعة من العذاب، يمنع أحدكم طعامه وشرابه ونومه".
الدليل الثالث: أنه التزم الحفظ فليتعرض لخطر الضمان أو ليترك السفر.
الدليل الرابع: أن السفر مخوف في الغالب، وأمنه نادر لا يوثق به ، ولذلك يمنع السيد مكاتبه من السفر، ويمنع ولي اليتيم من السفر بماله.
الدليل الخامس: أن السفر بالوديعة مع التغريـر بها إحالة بينها وبين مالكها بإبعادها عنه، وهذا عدوان.
الدليل السادس: أن العرف في حفظ الودائع وإحرازها جاز في الأمصار دون الأسفار، فكان الخروج عن العرف فيها عدواناً.
ونوقش هذا القول:
بأن قولهم: (إن السفر مضيعة وفيه الخوف غالباً)، مردود غير مسلم، أو يقيد بما إذا كان السفر مخوفاً، أما إذا كان آمناً فلا، والكلام فيما إذا كان  الطريق آمناً.
والحديث محمول على ابتداء الإسلام حين كانت الغلبة للكفرة وكانت الطريق مخوفة، ونحن نقول به.
القول الرابع: أنه له السفر بها إن كانت المسافة قصيرة، وإن كانت طويلة فليس له ذلك فيما له حمل ومؤنة.
وهو قول أبي يوسف من الحنفية، وقال محمد بن الحسن: ليس له السفر بها فيما له حمل ومؤنة.
أدلتهم :
الدليل الأول: أن المسافة قصيرة لا يخاف فيها عادة.
ويناقش:
بأن علة المنع من السفر بها هو تعريضها للتلف، وللتصرف فيها بدون إذن صاحبها.
والظاهر من حال صاحبها أنه لا يرضى بذلك، وصار كالوكيل بالبيع ليس له السفر بالمبيع وإن سافر به ضمن.
الدليل الثاني: أن السفر بالوديعة مما له حمل ومؤونة فيه ضرر بالمالك ، لجـواز أن يموت المودَع في السفر فيحتاج إلى الاسترداد من موضع لا يمكنه ذلك إلا بحمل ومؤنة عظيمة فيتضرر به، ولا كذلك إذا لم يكن لها حمل ومؤنة.
ونوقش:
بأن هذا النوع من الضرر ليس بغالب فلا يجب دفعه ، على أنه إن كان فهو الذي أضر بنفسه حيث أطلق الأمر ، ومن لم ينظر لنفسه فلا ينظر له، وهذا إذا كان العقد مطلقاً عن شرط ، فأما إذا شرط فيه شرطاً نظر فيه : إن كان شرطاً يمكن اعتباره ويفيد أعتبر وإلا فلا.
ولأن العلة في المنع من السفر هو ما يترتب عليه من تعريض الوديعة للتلف والضياع مع عدم الضرورة إلى ذلك.
الترجيح:
والراجح هو القول بأن المودَع لا يملك السفر بالوديعة إلا عند عدم وجود صاحبها أو وكيله ومن يضعها عنده من حاكم أو ثقة، لما استدلوا به ، ولأن المقصود من الإيداع الحفظ ، والحفـظ إنما يكون في العادة في البلدان لا في السفر، ولأن السفر تصرف والمودَع ممنوع من التصرف إلا بإذن المودِع، ولأن السفر مهما كان آمناً فليس كالحضر في الأمن والحفظ ، ولأن المودَع متبرع بالحفظ فلا يضار بذلك ويمنع من مصالحه.


مواضيع قد تفيدك: