أسرة آل بيروك: نفوذ اقتصادي وسياسي في وادي نون والعلاقة المتأرجحة مع المخزن
تُعد أسرة آل بيروك إحدى العائلات البارزة التي تنتمي إلى قبيلة "أيت موسى أوعلي"، وهي بدورها واحدة من أهم قبائل تكنة الممتدة جنوب وادي نون. اشتهرت هذه القبيلة تاريخيًا بـدورها التجاري المحوري في المنطقة، مما سمح لبعض أسرها بالبروز كقوى اقتصادية مؤثرة. من بين هذه الأسر، لمع نجم "أهل بيروك"، ووصلت مكانتهم الاقتصادية إلى درجة أن كبار الرحالة كانوا يقصدون الشيخ بيروك (يُفهم هنا أنه شخصية بارزة في الأسرة) للذبح له، في إشارة إلى نفوذه وكرمه وسلطته المعنوية في تلك الفترة.
العلاقة المتغيرة بين آل بيروك والمخزن المركزي:
لم تكن العلاقة بين أسرة آل بيروك والمخزن (السلطة المركزية في المغرب) دائمًا على وتيرة واحدة، بل شهدت تطورات وتحولات:
- فترة التوتر في عهد السلطان محمد بن عبد الرحمن: كانت العلاقة بين آل بيروك والمخزن متوترة في عهد السلطان محمد بن عبد الرحمن. يعود هذا التوتر بشكل أساسي إلى جهود أهل بيروك في فتح مرسى (ميناء تجاري) في وادي نون. ربما رأى المخزن في هذه الخطوة محاولة للاستقلال الاقتصادي، أو تهديدًا لسيطرة الدولة على التجارة الساحلية.
- إعادة صياغة العلاقات في عهد السلطان الحسن الأول: عمل المخزن جاهدًا على إعادة صياغة هذه العلاقات وتحويلها من التوتر إلى التعاون، خاصة في عهد السلطان الحسن الأول. وقد أثمرت هذه الجهود عن بناء علاقة قوية بين الأسرة البيروكية والسلطة المركزية. يتضح هذا الحضور القوي لأسرة بيروك في الترتيبات المخزنية من خلال الرسالة التي وجهها السلطان الحسن الأول نفسه إلى الشيخ لحبيب بيروك الوادنوني الجليمي، مما يدل على مكانة الأسرة وأهمية دورها بالنسبة للمخزن.
دور آل بيروك في مراقبة التجارة وحفظ الأمن الساحلي:
بعد فترة من التعامل مع الأوروبيين بشكل شبه مستقل عن إشراف المخزن، أصبحت أسرة أهل بيروك بمثابة ذراع تنفيذية لأوامر السلطان في المنطقة. تركزت هذه الأوامر بشكل خاص على مراقبة العلاقات التجارية بين السكان المحليين والتجار الأوروبيين. كان الهدف من ذلك هو تنظيم التجارة وفرض سيطرة المخزن عليها، وضمان عدم تجاوز القبائل للسياسات التجارية للدولة.
في هذا السياق، قام القائد دحمان ولد بيروك، وهو شخصية محورية من الأسرة، بـتنصيب فرق عسكرية على السواحل. كان الهدف من هذه الفرق هو فرض الأمن ومراقبة الأنشطة التجارية ومنع التهريب أو أي تجاوزات قد تُهدد سيادة المخزن.
ولم يقتصر دور دحمان ولد بيروك على المراقبة، بل قام أيضًا بعدة حملات تأديبية ضد القبائل التي كانت تتاجر مع الأوروبيين بشكل مستقل عن إشراف المخزن. تُشير هذه الحملات إلى سعي المخزن لتكريس احتكاره للتجارة الخارجية أو على الأقل التحكم فيها بشكل كامل. من أبرز هذه الحملات، شن حملات على حصن ماكينزي، الذي يُعتقد أنه كان نقطة تجارية أوروبية نشطة خارج سيطرة المخزن.
ومع ذلك، لم تكن هذه المواجهات دائمًا ناجحة بالكامل. فقد تلت هذه المواجهة الأولى مواجهات أخرى فشل دحمان بن بيروك من خلالها في إرغام قبيلة ازركيين على وضع حد لعلاقاتهم التجارية مع ماكينزي. هذا يُشير إلى وجود مقاومة قوية من بعض القبائل، وإلى تحديات استمرت تواجه سيطرة المخزن الكاملة في المناطق البعيدة.
حملات دحمان ولد بيروك العسكرية وتوسيع نفوذ المخزن:
تجاوز دور القائد دحمان ولد بيروك مراقبة التجارة، ليشمل حملات عسكرية أوسع تُعزز نفوذ المخزن في العمق الصحراوي:
- قاد دحمان حملة عسكرية بمساعدة عساكر المخزن للقضاء على أحد قواد "كنتة" الذي كان قد لقب نفسه بـ**"المتمهدي"**. هذا يشير إلى محاولة السلطة المركزية قمع أي حركات تمرد أو زعامات دينية وسياسية مستقلة قد تُهدد نوازنها.
- تتبع دحمان فلول هذا المتمهدي حتى "شنقيط" (موريتانيا الحالية)، مما يدل على عمق نفوذ الحملات العسكرية المخزنية في الصحراء.
- كما دخل إلى "أطار" (موريتانيا الحالية أيضًا) وعقد الصلح مع قبيلة "إذاوعيش". هذه التحركات تُبرز الدور الاستراتيجي لآل بيروك في بسط نفوذ المخزن في الأقاليم الصحراوية الشاسعة، وتأمين الطرق التجارية والسياسية فيها.
سعي المخزن لتعزيز زعامات محلية أخرى:
في موازاة التعاون مع أسرة آل بيروك، كان الجهاز المخزني يسعى أيضًا إلى إيجاد زعامات محلية أخرى جنوب وادي نون وفي الساقية الحمراء. كان الهدف من ذلك هو تنويع قواعد الدعم وتوزيع السلطة، لتجنب الاعتماد الكلي على أسرة واحدة، ولضمان استقرار أوسع في هذه المناطق الشاسعة. في هذا السياق، يُذكر بشكل خاص "محمد المصطفى ولد محمد فاضل ولد ماميين" المعروف بـ"الشيخ ماء العينين". تُظهر هذه الاستراتيجية المخزنية وعيًا بأهمية الزعامات المحلية في الحفاظ على الأمن والنظام في المناطق النائية، وتُؤكد على التفاعل المعقد بين السلطة المركزية والقوى القبلية المحلية في تاريخ المغرب.
ليست هناك تعليقات