التفكير الدينى فى العصر الجرهمى الآخر.. امتزاج الدم الجرهمى بالدم الكلدانى وتحول إله السماء إيل إلى إله وبالتالى إلى الله

من السجلات الدينية للتاريخ القديم يأتينا عن لون التفكير الدينى فى هذا العصر اليقين بأن الله إنما اسم فيه رجع الصدى لاسم إله السماء الذى كان معروفاً بين الرافدين تحت اسم إيل أو الإله... فعلى هذه السجلات نرى أن بقيام مكة فى هذه الوادى لله معبداً لم تنشأ عبادة جديدة محورها "الله" وإنما تركزت عبادة قديمة محورها "الله".. فليس إلا غداة امتزج الدم الجرهمى بالدم الكلدانى وأثمر هذا المزج المزيج من أصول عدنان التى امتزج بها اللسان البابلى باللسان القحطانى كان أن تحوّل، فى تحوير طفيف النطق من "إيل" إلى إله وبالتالى إلى الله!
"الله" إنما محور التفكير الدينى فى العصر الجرهمىّ الآخر ففى "الله"، كواحد إليه بأسبابها تعود الأسباب ومقاليد الكون وأمر الكائنات، انحصر فى العهود العربية التفكير الإلهى وانحصرت العقيدة الدينية التى سجلت ما قد كان للعرب الأول خلال هذا العصر من شريعة انبسجت أصولها من ينبوع هذا التفكير الذى جاء بدين يحمل اسم:
الدين الحنيف
كون المعتقد الإلهى لجرهم الثانية هذا الدين الذى جاء كنتيجة حتمية للعقيدة الإلهية التى رفت على العصر وانحصرت فى الاعتقاد بأن الله إنما واحد لا شريك له ولا معين ولا ظهير .. متصف بصفات الكمال من الحياة والقدرة والإرادة والعلم.. موصوف بصفات العلم من السمع والبصر لا تشبه ذاته الذوات ولا تضاهى صفاته الصفات... ليس كمثله شىء منزه هو عن كل ما يحلق به من صفات الأجسام وحوادث الأعيان وهو، والنور إنما أظهر العناصر، نور ... وهو، وهو الواحد الذى لا شريك له، المتفرد بملك ملكوت السماء والأرض تفردًا به إليه تعود أسباب الضر والنفع والمنح والمحن عودة تعود بأسبابها إلى امتلاكه لغير هذه الخاصيات من خواص الألوهية.
عن هذه العقيدة الإلهية للعصر الجرهمى الثانى تتنفس صدور الكتب الإسلامية( ) مؤكدة بأن العقل البشرى تحت صبغته العربية خلال هذا العصر كان مدركاً بأن لا معبود بحق فى الوجود سوى الله... وأنه الإله الواحد... الملتجأ إليه فى جميع الأمور ... المتوكل عليه فى جميع الشؤون... وأنه، ولئن كان متفرّداً بملك الضر والنفع، يستحيل وصفه بالظلم إذ هو الملك المقسط بالعدل... ولا يجب عليه شىء ... بل هو المتفضّل على خلقه وله الفضل عن كل شبيه ومعارض.. عالٍ على عرشه.. دانٍ بعلمه من خلقه، أحاط بالأمور، وأنفذ فى خلقه سابق المقدور.. يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور.. دافعاً خلق الخلق بمشيئته من غير حاجة كانت به وأمره نافذ فيهم فلا ينجيهم حذر .. بآجالهم ميتون... وبعد الضغطة فى القبور مسؤولون، وبعد الردى منشورون... ويوم القيامة إليه، لحساب بعده الجزاء من ثواب أو عقاب، يُحشرون!
لا ثمة شك فى أن معتقدًا إلهيًا ينحصر فى الاعتراف بألوهية إله ماهيته الماهية كان حتما أن يكون نتيجته هذا الدين الذى سجل للعقل الإنسانى استقامة فى عهد باكر من تاريخ حداثته.
ولكن! لئن سجّل العقل الإنسانى لنفسه فى هذا العهد الباكر من تاريخ حداثته استقامة فليس لا  ليسجّل فى نفس الوقت على نفسه كبوة كباها فى هذه الحداثة التى ليست إلا رضوخًا لها واستجابة لإملاءاتها كان أن توهجت منه العاطفة، عاربًا ومستعبرًا، بلهب ما قد قدحته المخيلة الفجّة منه فى أرجاء فكره من شرر الخيال فقد انطلق منه الشعور فياضًا تحت فيض الانفعالات النفسية يحفّ الإله، وهو الذى كان قد آمن بأن مسكنه السماء وعال عرشه، بحاشية نحوها كان حتمًا أن تجنح منه المخيلة وتعود إليه بأطياف مجنحة حاكها من مادة الوهم!... بل فى وهمه تمادى فامتد يقول بأنها، وهى حاشية الإله النورانى الطبيعة، نورانية العنصر ومن ثم اختلجت منه الشفاه تسميها بالأملاك وبالتالى: الملائكة.
وأما أين مسكن هذه الكائنات النورانية التى لها قد خلق الإله؟ فسؤال أسهر المقلة العربية وأرسلها تجوب ليلاً الآفاق مستشفة أى النواحى من كل هذه الأرجاء هو المسكن لهذه الكائنات التى تقف فى مرتبة أدنى من مرتبة الإله.
وبالأنجم فى إطار الفضاء علقت من العقل، ليلاً، الأهداب، وإليها راح فى آفاق صحرائه يصبو ويطلع على أسس ما قد كان له بها سابق علم، فقد كان له بالأجرام العلوية علم وكان له بحركة هذه الأجرام اشتغال لاشتغاله بالرصد فيما يتعلق به غرضه الذى أدى إلى
معرفته بأقسام فصول السنة والأبراج الأثنى عشر التى كان قد اعتبر الأضواء منها شاهدة على أن للكون سيدًا واحدًا عليًا مسكنه السماء هو من تناديه شفتاه!... الله! ولكن! خفق الأضواء قد ألقى فى الوجدان العربى وجدًا! وجاوب خفقها للجوانب من هذا الوجدان خفقًا فازدادت المخيلة من العقل العربى نحو هذه الأجرام المتلألئة فى آفاق صحرائه جنوًا وراحت، فى الجنوب والشمال تحت فيض هذه الانفعالات، تتخيل أن من قد اقتنعت بوجودهم من الملائكة إنما فى هذه الأنجم تسكن؛ كما تسكن الروح الجسم وبما خالته الخميلة راح العقل العربى مقتنعًا فآمن بأن الملائكة إنما تقف فى خدمة الإله مكلفة بمراقبة الكائن وحكم الكون، وعند هذا الحد من الاقتناع توقف من العقل المنطق وبه وقف فهو إلى الأنجم بالعبادة، حنيفًا، لم يتجه ذلك الاتجاه الذى سجله على نفسه بناحية من العقلية العربية أخرى غداة إلى هذه الأجرام السماوية، فى ليل البيد، صبا الخيال منه صبيًا فسجلت صبوته.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال