صراع الركيبات وأيت أوسا: من الجذور التاريخية إلى تأثير الاستعمار
تُعد العلاقة بين قبيلتي الركيبات وأيت أوسا في الصحراء المغربية الجنوبية من العلاقات المعقدة التي نسجت على منوالها الكثير من الملامح التاريخية والحكايات الشعبية. على الرغم من أن المؤشرات الأولية تُشير إلى علاقة يسودها الود والتعاون، إلا أن الأحداث التاريخية، خاصة في فترة الاستعمار، قد غيرت مسار هذه العلاقة إلى حد كبير.
قبيلة الركيبات: الأصول والانتشار
تنتشر قبائل الركيبات جغرافيًا جنوب المجال الترابي لقبيلة أيت أوسا. تُعرف الركيبات بنسبها الشريف إلى الشيخ سيدي أحمد الركيبي، حفيد مولاي عبد السلام بن مشيش. هذا النسب يُضفي عليهم مكانة دينية وروحية مرموقة في المنطقة، ويُشير إلى أن أصولهم مرتبطة بالزوايا الصوفية والمرابطين.
على مر التاريخ، دخلت بعض العائلات الركيبية تحت حماية قبائل أخرى، خاصة من تكتل تكنة. هذا التحالف أو الحماية يُشير إلى ديناميكيات اجتماعية وسياسية معقدة، حيث كانت القبائل الكبرى تُقدم الحماية لقبائل أو فروع أصغر مقابل الولاء أو خدمات معينة. من الأمثلة على ذلك:
- السواعد الذين دخلوا تحت حماية أيت لحسن.
- أهل أفرييت الذين حظوا بحماية قبيلة أزوافيط.
الجذور التاريخية للصراع: من تجكانت إلى الركيبات
على الرغم من المثل الحساني الذي يقول: "الركيبات الخيمة وأيت أوسا الكفا" (وهو ما يُجسد علاقة حسنة وتعاونية)، إلا أن الجذور الأولى للصراع بين أيت أوسا والركيبات تُعاد إلى صراع أقدم وأكثر تقليدية: الصراع الدائر بين الركيبات وقبيلة تجكانت.
كان مسرح هذا الصراع هو المنطقة الصحراوية الجنوبية الشرقية خلال العصر الوسيط المغربي. ووفقًا لمخطوط تاريخي، بدأت الشرارة الأولى لهذا الصراع في عام 11 من القرن الثالث عشر الهجري (1893م)، عندما كان رجل من الرقيبات يُدعى الركيك بن الصغير يعمل مؤجرًا (ربما معلمًا أو راعيًا) لدى تجكانت. عندما طالب الركيبي بحقه (البعير الملتزم له في الإجازة)، نشب شجار بينه وبين رجل من تجكانت في المسجد، انتهى بأن طعنه الجكني بخنجر. عندما بلغ الخبر لعامة الرقيبات، اجتمعوا وانتدبوا رجالًا من أعيانهم لأخذ الثأر.
هذه الواقعة تُعتبر نقطة تحول تاريخية للركيبات، حيث تُشير إلى أنهم حملوا السلاح لأول مرة. فقبل هذا الحدث، كانوا يُعرفون كقبيلة مرابطية تهتم بأمور معاشية ودينية في سلم تام، مما يُعزز مكانتهم الروحية وكونهم كانوا غالبًا غير منخرطين في النزاعات القبلية المسلحة المباشرة.
اتفاقية 1910: محاولة لطي صفحة الصراع وتقوية العلاقات
ابتداءً من عام 1910، تم عقد أول اتفاقية رسمية بين قبيلتي أيت أوسا والركيبات. هذه الاتفاقية كانت تهدف إلى تصفية الديون وتبادل الديات، مما يُشير إلى محاولة لإنهاء النراعات القديمة وتسوية الخلافات الدموية والمالية بين الطرفين. وقد وقع على هذه الاتفاقية شخصيات قيادية بارزة من الجانبين:
- عن جانب أيت أوسا: القائد محمد ولد الخرشي ونائبه سيدي ولد الخرشي والرباني ولد حمدي.
- عن جانب الركيبات: الشيخ سيدي إبراهيم ولد مولاي يوسف ونائبه حسن ولد محمد أحمد.
نصت الوثيقة على أن الاتفاقية "وقعت بين إخواننا الأشقاء الذين اتفقوا عليها في واد لرمات بالصحراء الكبرى بتاريخ أعلاه عام 1910 واتفقوا على جميع اللوازم والشروط التي بين أيت أوسا وأشقائهم من الركيبات". هذا النص يُعزز فكرة الأخوة والتعاون المستقبلي بين القبيلتين.
بعد هذه الاتفاقية، تقوت العلاقات الثنائية بين القبيلتين، خصوصًا التجارية منها، كما تقوت الروابط الاجتماعية، مما يُظهر رغبة حقيقية في بناء جسور التواصل والتعاون الاقتصادي والاجتماعي.
تأثير الاستعمار: سياسة "فرق تسد" وإشعال فتيل الحرب
للأسف، لم تستمر هذه العلاقات الودية طويلًا. فمع بداية فترة الاستعمار، سرعان ما تلاشت هذه العلاقات الحسنة. لعب الاستعمار دورًا حاسمًا في إشعال فتيل الحرب بين القبيلتين، وذلك من خلال نهجه لسياسة "فرق تسد" (Divide and Conquer).
- نزع السلاح من أيت أوسا: عمدت فرنسا (التي بسطت نفوذها على المناطق التي تتواجد بها أيت أوسا) إلى نزع السلاح من أفراد قبيلة أيت أوسا، خشية قيامهم بأعمال فدائية أو مقاومات ضد مصالحها.
- بقاء الركيبات مسلحين تحت الاستعمار الإسباني: في المقابل، بقيت الركيبات تحت الاستعمار الإسباني (الذي كان يسيطر على مناطقهم) مسلحة.
- اختلال ميزان القوى: أدى هذا التفاوت في التسليح إلى اختلال كبير في ميزان القوى المادية بين القبيلتين. وبما أن القوة المادية كانت عاملًا حاسمًا في النزاعات القبلية آنذاك، استغلت الركيبات هذا الوضع.
- هجومات الركيبات المباغتة: بدأت الركيبات تشن هجومات مباغتة على تجمعات قبيلة أيت أوسا في صحراء الحمادة. هذه الهجومات لم تكن مجرد صراعات تقليدية، بل كانت مُحرضة وربما مُدعمَّة من القوى الاستعمارية لتحقيق أهدافها.
إرث الحقد وضرورة الفهم التاريخي:
نتيجة لهذه السياسات الاستعمارية، ظل الحقد ملازمًا للنفوس على مر العصور، وتشكلت صورة نمطية سلبية بين القبيلتين. من هنا، يُصبح من الضروري فحص الأمور من جانبها الحقيقي، بعيدًا عن كل الحساسيات والضغائن التاريخية.
إن فهم أفراد القبيلتين أن كل مخلفات الماضي البعيد ما هي إلا نتاج للفترة الاستعمارية بكل أنواعها القمعية والاستغلالية، من أجل طمس الذات والهوية المحلية، يُعد خطوة أساسية نحو المصالحة. لقد استغل الاستعمار نقاط الضعف والفروقات القبلية لشق الصفوف وإضعاف المقاومة.
القداسة الأسطورية في غزوات أيت أوسا:
تُلاحظ سمة فريدة في غزوات قبيلة أيت أوسا، وهي أنها غالبًا ما كانت تطبعها هالة من القداسة تختلط أحيانًا بما هو أسطوري. فإذا كان محمد ولد الخرشي، كزعيم، ينفرد بـ**"البركة"**، فإن باقي أعراش القبيلة كانت تتوزع مهامًا يُشكل بعضها اعتبارات خيالية أو روحية موجهة:
- عرش "امفاليس": لا يمكن لأي شخص أن يضع راحلته على جمله أو سرجه على فرسه قبل أن يقوم بذلك فرد من عرش "امفاليس". هذا يُشير إلى دور طقوسي أو بركة خاصة لهذا العرش في بدء التحركات العسكرية.
- عرش "إيمغلاي": الرصاصة الأولى التي تنطلق في اتجاه العدو يجب أن تكون منطلقة من بندقية أحد أفراد عرش "إيمغلاي". وهذا يُعطي هذا العرش دورًا رمزيًا مهمًا في "افتتاح" القتال، ويُضفي عليه قوة معنوية كبيرة.
لقد كانت لهذه الاعتبارات الخرافية والروحية دورًا مهمًا في الانتصارات التي كانت القبيلة تُحققها، سواء في الحالات الهجومية أو الدفاعية. فالعقيدة والإيمان بالبركة والكرامات كانت تُعزز الروح المعنوية للمقاتلين وتُشجعهم على الثبات.
هذا المثل يُشير إلى أن الشر، الذي لا يُتوقع، يُسبب الهم والشكوى لمن يتعرض له، وأن الحكماء يتجنبونه قدر الإمكان. هذا يُعكس ميل القبيلة إلى السلم كأساس، وإلى الحرب كملاذ أخير.
ليست هناك تعليقات