إشكالية إثبات الملكية العقارية بالإرث: دور "الشهادة التوثيقية" كآلية للشهر ومناقشة الجدل حول طبيعتها الإلزامية وقيودها

شهر حق الإرث في الملكية العقارية: بين واقعة الوفاة وضرورة الإجراءات القانونية

تُعد الملكية العقارية من أهم الحقوق التي يحرص القانون على تنظيمها وضمان استقرارها. في ظل التشريع العقاري الحالي، تنتقل الملكية العقارية إلى الورثة بمجرد حدوث الوفاة، وهي واقعة مادية بحتة. هذا يطرح تساؤلاً جوهريًا: هل هذه الواقعة المادية، رغم أهميتها، تستعصي على الشهر الذي يُعتبر الإجراء الوحيد لترتيب الأثر العيني المتمثل في نقل الملكية بشكل رسمي؟ أم أن المشرع قد وضع أداة فنية خاصة لشهر حق الإرث؟ وما هي الآثار المترتبة على ذلك في كل هذه الحالات؟


الشهادة التوثيقية: أداة المشرع لشهر حق الإرث

بالفعل، لقد أدرك المشرع أهمية توثيق انتقال الملكية العقارية في حالة الوفاة، ولهذا فقد وضع "الشهادة التوثيقية" كقيمة قانونية وإجراء إلزامي لإثبات انتقال الملكية من المورث المتوفى إلى ورثته. تُعد هذه الشهادة بمثابة الآلية الفنية التي تُسجل واقعة الوفاة وتنقل الملكية العقارية إلى الورثة بشكل رسمي في السجلات العقارية.

وقد أيّد المشرع رأيه في هذا الشأن بقرارات قضائية تؤكد على إلزامية هذا الإجراء. ففي القرار رقم 652-206 المؤرخ في 10/07/2000 الصادر عن مجلس الدولة، الغرفة الأولى (غير منشور)، والذي يمثل سابقة قضائية هامة، جاء ما يلي:

  • حيثيات القرار: أكد القرار أن المستأنفين لم يتمكنا من إثبات انتقال الملكية المزعومة للقطعة الأرضية موضوع النزاع من والدهما المتوفى إليهما بعقد توثيقي رسمي، وهو ما تشترطه أحكام المادة 91 من المرسوم رقم 76/63 المؤرخ في 25/03/1976.
  • إجراء إلزامي مسبق: اعتبر القرار أن هذا الشرط هو "إجراء مسبق" وضروري لإثبات انتقال الملكية بصفة رسمية من صاحبها الأول (المورث) عند وفاته إلى الورثين.
  • دعوى سابقة لأوانها: خلص القرار إلى أن المستأنفين لم يقوما بهذا الإجراء القانوني والإلزامي قبل رفع دعواهما المتعلقة بالاعتراف بالملكية على القطعة الأرضية المتنازع عليها، في إطار تطبيق أحكام المرسوم رقم 83/352 المؤرخ في 21/05/1983. وبناءً عليه، اعتبرت الدعوى سابقة لأوانها لعدم قيام المستأنفين بالإجراءات القانونية الأولية لإثبات صفتهم كوارثين شرعيين للمرحوم، ولإثبات نقل الملكية إليهم بصفة رسمية كما يستلزمه القانون.

نقد القرار القضائي: جدل حول الطبيعة الإلزامية للشهادة التوثيقية

على الرغم من تأكيد مجلس الدولة على إلزامية الشهادة التوثيقية كشرط لرفع الدعوى، إلا أن هناك نقدًا لهذا القرار يستند إلى عدة حجج قانونية ومنطقية:

  • الملكية تنتقل بالوفاة مباشرة: يرى النقاد أن ما ذهب إليه مجلس الدولة من اعتبار الشهادة التوثيقية قيدًا على رفع الدعوى غير سديد. وذلك لأن المادة 15 من الأمر 75/74 المؤرخ في 12/11/1975، والمتضمن إعداد مسح الأراضي العام وتأسيس السجل العقاري، نصت بوضوح على أن مسألة انتقال الملكية في حالة الوفاة تتم إلى الورثة بمجرد حدوثها. هذا يعني أن الملكية تُكتسب للورثة تلقائيًا بمجرد وفاة المورث، دون الحاجة إلى إجراء شكلي مسبق لنقلها.
  • القول ببقاء الملكية بلا مالك: إن المبدأ الذي انتهى إليه مجلس الدولة يوصلنا إلى نتيجة غير مستساغة وغير منطقية. فإذا اعتبرنا أن الملكية لا تنتقل إلا بشهر الشهادة التوثيقية، فهذا يعني أنه في حالة وفاة المورث دون تحرير الشهادة التوثيقية، فإن الملكية تبقى بدون مالك إلى غاية إعداد هذه الشهادة وشهرها بالمحافظة العقارية. هذا المفهوم يتعارض مع طبيعة حق الملكية كحق دائم وغير منقطع، ولا يمكن القول بأن العقار يبقى بلا مالك، خاصة إذا طال أمد تحرير هذه الشهادة لأي سبب كان (إجراءات إدارية، خلافات بين الورثة، إلخ).
  • تطبيق الشهادة التوثيقية في دعاوى التقادم المكسب: بالرجوع إلى حيثيات القرار المشار إليه أعلاه، نجده يتعلق بدعوى الاعتراف بالملكية عن طريق التقادم المكسب في إطار تطبيق أحكام المرسوم 83/352 (المتعلق بعقد الشهرة). ورغم أن هذه الدعوى تقوم على إثبات الحيازة لمدة معينة بشروط محددة لكسب الملكية، إلا أن قضاة مجلس الدولة اشترطوا الشهادة التوثيقية. في حين أن مثل هذه الدعاوى لا تتطلب من القاضي طلب الإشهار المسبق، وذلك طبقًا لمبدأ الأثر الإضافي للشهر. فالأثر الإضافي يعني أن الشهر يضيف قوة إثباتية وحجية للحقوق المكتسبة، ولكنه ليس شرطًا لإنشائها في كل الأحوال. ففي حالة التقادم المكسب، يُعد اكتساب الملكية في حد ذاته كإجراء أول بالنسبة للعقار المراد اكتسابه. بمعنى أن الحيازة المستمرة بشروطها القانونية هي التي تُنشئ الحق، ويأتي الشهر بعد ذلك لتوثيقه وإضفاء الحجية عليه، وليس شرطًا لرفع دعوى إثبات هذا الحق.

الخلاصة والآثار المترتبة:

يُظهر هذا النقاش تعقيدات العلاقة بين انتقال الملكية بالوفاة وضرورة الشهر العقاري. بينما يرى المشرع ضرورة لوجود أداة قانونية مثل الشهادة التوثيقية لتسجيل انتقال الملكية رسمياً، فإن هناك تباين في التفسيرات حول طبيعة هذه الأداة كشرط لإثبات الحق أو قيد لرفع الدعاوى.

الآثار المترتبة على هذا الجدل تكمن في:

  • أهمية الشهادة التوثيقية: تبقى الشهادة التوثيقية أداة مهمة وضرورية لإضفاء الرسمية والحجية على انتقال الملكية للورثة في السجل العقاري. إنها تضمن الشفافية وتسهل التعاملات المستقبلية على العقار.
  • النفاذ والاحتجاج على الغير: بدون شهر الشهادة التوثيقية، قد يواجه الورثة صعوبة في الاحتجاج بملكيتهم على الغير، وفي القيام بتصرفات قانونية على العقار (مثل البيع أو الرهن)، حتى وإن كانت الملكية قد انتقلت إليهم بمجرد الوفاة.
  • إجراءات التقاضي: كما بين القرار، قد يُنظر إلى الدعاوى المتعلقة بالملكية الموروثة على أنها سابقة لأوانها إذا لم يتم استكمال إجراءات الشهادة التوثيقية، مما يؤدي إلى إطالة أمد التقاضي.
  • ضرورة الموازنة: يبرز النقد أهمية الموازنة بين حماية حقوق الورثة التي تنتقل إليهم بمجرد الوفاة، وضرورة استيفاء الإجراءات الشكلية لضمان استقرار المعاملات العقارية وسهولة الإثبات.

ليست هناك تعليقات

جميع الحقوق محفوظة لــ وريقات 2015 ©