الأزمة المالية في عهد الخديوي إسماعيل: تقاطع البذخ والطموح السياسي والمشروعات الكبرى
تُعد الأزمة المالية التي ضربت مصر في عهد الخديوي إسماعيل نقطة تحول مفصلية في تاريخ البلاد، حيث كانت سبباً مباشراً في زيادة التدخل الأجنبي. يمكن تحليل أسباب هذه الأزمة ضمن ثلاثة محاور رئيسية متداخلة: البذخ والإسراف الشخصي والسياسي، الطموح السياسي والتوسعي، والإنفاق على المشروعات التنموية.
أولاً: البذخ الشخصي ومظاهر الترف والإسراف
كانت النفقات الشخصية للخديوي إسماعيل وحبه لحياة الترف والبذخ عاملاً أساسياً ومباشراً في استنزاف الخزانة المصرية. وقد تجلى هذا في جوانب عديدة:
- إقامة القصور والحدائق الفخمة: أنفق إسماعيل أموالاً طائلة على بناء القصور والمنشآت المعمارية الفاخرة التي لم يكن لها مردود اقتصادي مباشر على الدولة، بالإضافة إلى تجميل العاصمة القاهرة لتضاهي المدن الأوروبية.
- حفلات الافتتاح الأسطورية: كان حفل افتتاح قناة السويس عام 1869م هو ذروة هذا البذخ، حيث دعا إليه ملوك ورؤساء أوروبا، وأقام احتفالات صُرفت عليها مبالغ خيالية، مما زاد من أعباء الديون.
- النفقات التوسعية في إفريقيا: لم يقتصر الإسراف على الداخل، بل شملت طموحات إسماعيل التوسعية في مناطق إفريقيا، لا سيما في الحبشة، حيث تطلبت تلك الحملات العسكرية موارد مالية ضخمة لتمويل الجيوش والمعدات.
ثانياً: النفقات السياسية للحصول على الامتيازات (الفرمانات السلطانية)
سعى إسماعيل جاهداً للحصول على أكبر قدر من الاستقلال عن الدولة العثمانية، وكان يرى في المال وسيلة لتحقيق هذا الهدف السياسي. وقد أدى هذا السعي إلى تحميل الخزانة أعباء مالية ضخمة تمثلت في:
- الرشاوى والهدايا للسلطان العثماني وحاشيته: كان إسماعيل يُكثر من إرسال الهدايا النفيسة والمبالغ المالية الضخمة إلى السلطان العثماني ومستشاريه لتليين مواقفهم وضمان إصدار الفرمانات التي تحقق أهدافه الشخصية والسياسية.
- فرمان 1866م (وراثة العرش): دفع إسماعيل مبالغ كبيرة لضمان إصدار هذا الفرمان الهام، الذي نقل حق وراثة العرش من أكبر أبناء أسرة محمد علي (كما كان في السابق) إلى أكبر أبناء الخديوي نفسه، ليضمن بذلك توريث الحكم لأبنائه المباشرين.
- فرمان 1867م (لقب الخديوي): بموجب هذا الفرمان، حصل إسماعيل على لقب "الخديوي" (وهي كلمة فارسية تعني "الأمير العظيم" أو "العظيم")، وهو لقب أرفع من "الوالي" ويمنحه المزيد من الامتيازات والسلطات الداخلية والدولية، وقد كلف هذا الفرمان أيضاً مبالغ طائلة وزيادة في الجزية السنوية التي تدفعها مصر للسلطنة العثمانية.
ثالثاً: التكاليف الإلزامية للمشروعات الداخلية والخارجية
لم تكن جميع النفقات إسرافاً بلا عائد، فقد قام إسماعيل بتنفيذ حزمة كبيرة من المشروعات القومية والتنموية التي تطلبت استثماراً ضخماً، ولكن تمويلها عن طريق القروض بفوائد عالية هو ما أدى إلى الكارثة:
- التعويضات لشركة قناة السويس: اضطرت الحكومة المصرية إلى دفع تعويضات ضخمة لشركة قناة السويس الفرنسية (برئاسة فرديناند ديليسبس) تنفيذاً لقرار التحكيم الصادر عن الإمبراطور الفرنسي نابليون الثالث. هذه التعويضات كانت نتيجة لإنهاء بعض الامتيازات التي حصلت عليها الشركة، مثل حق استغلال الأراضي المحيطة بالقناة، وقد شكلت هذه الدفعة عبئاً مالياً كبيراً وفوريًا.
- فوائد القروض والسمسرة: اعتمد إسماعيل بشكل مكثف على سياسة الاقتراض من البنوك الأوروبية، وقد أدت الفوائد المتراكمة على هذه القروض (بالإضافة إلى عمولات السمسرة المرتفعة) إلى ابتلاع جزء كبير من إيرادات الدولة، مما جعل الدولة تقترض لسداد فوائد القروض القديمة، وهو ما يُعرف بـ "الديون السائرة".
- المشروعات القومية الكبرى: كان هدف إسماعيل هو تحويل مصر إلى قطعة من أوروبا، مما دفعه إلى تمويل:
- إتمام حفر قناة السويس وبنيتها التحتية.
- شق الترع والمصارف الرئيسية (مثل ترعة الإبراهيمية والإسماعيلية) لتوسيع الرقعة الزراعية.
- مد خطوط السكك الحديدية وتحديث المواصلات.
- بناء المدارس والمصانع (مثل مصانع السكر) ودار الأوبرا.
في المحصلة، أدت سياسة الاقتراض غير المنضبطة لتلبية الطموحات الشخصية والسياسية جنباً إلى جنب مع الإنفاق على التنمية، بالإضافة إلى عوامل خارجية مثل هبوط أسعار القطن عالمياً، إلى تضخم الدين العام المصري من بضعة ملايين في بداية حكمه إلى أكثر من 90 مليون جنيه إسترليني، مما فتح الباب واسعاً أمام التدخل المالي والسياسي الأجنبي الذي انتهى بالاحتلال البريطاني لمصر عام 1882م.