اختلف الفقهاء رحمهم الله في وجوب زكاة الأوراق النقدية في أول ظهورها. وذلك بناء على اختلاف أقوالهم في تكييف الأوراق النقدية([1])، إلا أن هذا الاختلاف لم يدم طويلاً مع شيوع التعامل بهذه الأوراق النقدية، وقيامها بوظائف النقود، فهي وسيط التبادل في المعاملات والمعاوضات، وفي إبراء الذمم ووفاء الديون، وفي ضمان المتلفات وفي استباحة الفروج، وهي معيار القيم فبها تقوَّم الأشياء، وهي مستودع الثروة وأداة اختزان القيم. فبعد هذا التطور في استعمال هذه الأوراق النقدية انحسر القول بعدم وجوب الزكاة فيها حتى لا يكاد يعرف قائل به بين علماء المسلمين([2])، بل حكى بعض الباحثين في أحكام الأوراق النقدية الاتفاق على وجوب الزكاة في الورق النقدي([3]).
أما بالنسبة لما يجب إخراجه في الأوراق النقدية فهو من عين المال الذي وجبت فيه الزكاة، وهو الأوراق النقدية. لا خلاف في ذلك بين القائلين بوجوب الزكاة فيها؛ لأن الأصل في الزكاة كونها من عين المال الذي وجبت فيه؛ يدل لذلك أدلة كثيرة منها: قول الله تعالى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } ([4]), وقول الله تعالى:{وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} ([5]), وغير ذلك من الأدلة التي تفيد أن الزكاة تجب في عين المال([6]). ولا أثر للتضخم النقدي في ذلك مهما بلغت درجته، فيما يظهر، والله أعلم.
أما نصاب([7]) الأوراق النقدية فلا طمع في الوقوف على نص خاص في تقديره؛ لأنه لم يجر بها استعمال وقت نزول الوحي. لكن لما كان المقصود من هذه الأوراق النقدية ماليتها، أي: قيمتها التبادلية لا أعيانها، فإن المعتبر في نصابها قيمتها([8]). وإنما تعرف المالية في الزكاة بتقويمها بالنقدين: الذهب أو الفضة([9]). ولذلك ذهب أكثر أهل العلم إلى أن المعيار في تقدير نصاب الأوراق النقدية هو أن تبلغ أدنى النصابين من الذهب أو الفضة([10]).
ونصاب الذهب من الجرامات خمسة وثمانون جراماً، ونصاب الفضة من الجرامات خمسمائة وخمسة وتسعون جراماً([11]).
ومن هذا يتبين أن التضخم النقدي ليس له أثر في قدر أنصبة الأموال الزكوية التي جاء النص بتحديدها وبيان قدرها في السنة، فقد حدّد النبي (ص) نصاباً للنقدين: الذهب والفضة، وآخر لبهيمة الأنعام: الإبل والبقر والغنم، وآخر للزروع والثمار. فإذا بلغ المال الزكوي النصاب المحدد وجبت فيه الزكاة على كل حال.
وأما تأثير التضخم النقدي على قدر النصاب في الأوراق النقدية فذلك؛ لأن قيمتها التبادلية وقوتها الشرائية تنقص وتقلّ في حالات التضخم النقدي، فيتغير بذلك مقدار النصاب فيها؛ لتغير قيمة النصاب الذي تعتبر به، وهو نصاب الذهب والفضة. فالتضخم النقدي يرفع مقدار نصاب الأوراق النقدية، فيكون هذا القدر من الأوراق النقدية مما تجب فيه الزكاة قبل حدوث التضخم النقدي؛ لكونه نصاباً، لكنه بعد حدوث التضخم النقدي وانخفاض القيمة التبادلية للأوراق النقدية يصير ذلك القدر دون النصاب، فلا تجب فيه الزكاة([12]).
ومثال ذلك أن يكون لدى الإنسان ألف ريال، وقيمة أدنى النصاب من الذهب أو الفضة ستمائة ريال، فيكون هذا القدر قد بلغ النصاب فتجب فيه الزكاة، فإذا طرأ تضخم نقدي وانخفضت به القيمة التبادلية للنقود الورقية، وصارت أدنى قيمة نصابي الذهب أو الفضة ألفاً وثلاثمائة ريال، فإن من ماله ألف ريال فقط لا تجب عليه فيها زكاة؛ لكونه لم يبلغ نصاباً، وبهذا يخرج هذا القدر من المال عن دائرة من تجب في أموالهم الزكاة.
([1]) ينظر: العقود الياقوتية لابن بدران ص (231-235)، فقه الزكاة للقرضاوي (1/272-274)، الفقه الإسلامي وأدلته (2/772-773)، مجلة البحوث الإسلامية، أوراق النقود ونصاب الورق النقدي، العدد (39)، ص (311-324).
([2]) ينظر: فقه الزكاة للقرضاوي (1/275)، الشرح الممتع على زاد المستقنع (6/101)، فتاوى الزكاة إعداد بيت الزكاة ص (53-55)، الأوراق النقدية في الاقتصاد الإسلامي ص (279)، الموسوعة الفقهية الكويتية (23/267)، مجلة مجمع الفقه الإسلامي (3/3/1771).
([3]) ينظر: أحكام الأوراق النقدية للعثماني ص (16)، أحكام الأوراق النقدية والتجارية ص(515).
([4]) سورة التوبة، من آية: (103).
([5]) سورة المعارج، آية: (24-25).
([6]) ينظر: أحكام القرآن للجصاص (3/215)، بدائع الصنائع (2/22)، عدة البروق ص (140)، المحلى (7/527).
([7]) النصاب: بكسر النون، وهو القدر الذي إذا بلغه المال وجبت فيه الزكاة.
[ينظر: القاموس الفقهي ص (353)، تحرير ألفاظ التنبيه للنووي ص (102)].
([8]) ينظر: المبسوط (2/191، 3/16)، بدائع الصنائع (2/21).
([9]) ذهب بعض الباحثين إلى أن معيار تقدير نصاب الأوراق النقدية هو قيمة نصاب بهيمة الأنعام: خمس من الإبل أو أربعين من الغنم؛و ذلك لما يتميز به من الثبات النسبي بخلاف قيمة نصاب الذهب والفضة. فإن التغير الذي يعتري قيمة نصاب بهيمة الأنعام يسير.
والذي يظهر للباحث أن في هذا القول نظراً ظاهراً؛ لأن المعتبر في إلحاق الورق النقدي بنوع من الأموال الزكوية هو الموافقة في المعنى لا مقدار ما يعتري النصاب من تغير. ومما لا ريب فيه أن أقرب الأموال الزكوية شبهاً بالنقود الورقية: الذهب والفضة.
[ينظر: فقه الزكاة للقرضاوي (1/267-269)، أحكام الأوراق النقدية والتجارية في الفقه الإسلامي ص (520-523)].
([10]) ينظر: أحكام الأوراق النقدية والتجارية في الفقه الإسلامي ص (518)، مجلة البحوث الإسلامية، أوراق النقود ونصاب الورق النقدي، العدد (39)، ص (325)، مجلة مجمع الفقه الإسلامي (3/3/1771)، مجلة المجمع الفقهي الإسلامي (8/335).
([11]) ينظر: فقه الزكاة للقرضاوي (1/259-261)، تنظيم ومحاسبة الزكاة ص (71-72).
([12]) ينظر: مجلة أبحاث اليرموك، أثر التضخم الاقتصادي على الزكاة، قاسم الحموري، المجلد(11)، العدد (3)، ص (147).
التسميات
تضخم