التضخم النقدي جائحة من جوائح الأموال.. انحطاط سعر العين بعد العقد عليها لا يثبت به شيء لمن انتقلت إليه بالعقد

ذهب بعض الفقهاء إلى أن التضخم النقدي الطارئ على الأوراق النقدية يعتبر جائحة من الجوائح التي تصيب الأموال([1]).
واختار هذا التخريج المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي في دورته الخامسة عام 1402هـ، ولكنه قيده بما إذا كان التضخم النقدي غير متوقع، ويترتب عليه خسائر جسيمة غير معتادة في العقود الطويلة الأجل([2]).
واحتج القائلون بهذا التخريج بعدة أوجه:
أولاً: عموم قول جابر (ض): إن النبي (ص) أمر بوضع الجوائح([3]). فإن الجوائح لا تختص الثمار فقط، بل تشمل أيضاً النقص في سائر عقود المعاوضات([4]).
ثانياً: أن التضخم النقدي يشارك الجائحة في أن أحد طرفي العقد قد حصّل مقصوده، والآخر متضرر بالنقص الحاصل من جراء التضخم النقدي([5]).
ثالثاً: أن التضخم النقدي يشارك الجائحة في كون الضرر الحاصل والنقص الداخل على أحد طرفي العقد لا يمكن دفعه، ولا يَدَ له في حصوله([6]).
ويناقش هذا التخريج بأمرين:
أولاً: أن هناك فرقاً بين الجوائح في الأموال وبين التضخم النقدي الذي يصيب الأوراق النقدية، حتى على القول بأن الجوائح لا تختص الثمار. وهو أن النقص في الجوائح داخل على عين المعقود عليه مباشرة أو على ما يؤثر فيها. ثم إن غاية ما في وضع الجوائح رجوع كل طرف بالذي له. أما التضخم النقدي ففيه تضرر أحد طرفي العقد بأمر خارج، وهو رخص النقود الثابتة في الذمة، فلا يعد ذلك جائحة؛ لأن انحطاط سعر العين بعد العقد عليها لا يثبت به شيء لمن انتقلت إليه بالعقد([7]).
ثانياً: أن وضع الجوائح لا يتضمن الإضرار بأحد المتعاقدين لأجل حفظ مصلحة الآخر، بل الذي يقصد منه هو عدم أخذ المال بغير حق. ولذلك قال النبي r في حديث وضع الجوائح: ((بمَ تأخذ مال أخيك بغير حق))([8]). أما اعتبار التضخم النقدي الطارئ على الأوراق النقدية جائحة فيتضمن إلحاق الضرر بأحد طرفي العقد لتخفيفه عن الآخر، ومن القواعد الفقهية المشهورة أن الضرر لا يزال بضرر([9])، فليست مراعاة حق أحد العاقدين أولى من الآخر([10]).
وقد اختلف القائلون بهذا التخريج في نسبة التضخم النقدي التي يُعدُّ بها من الجوائح على أربعة أقوال([11]):
القول الأول: أن نسبة التضخم النقدي التي يعامل فيها معاملة الجوائح يرجع في تحديدها إلى العرف([12]).
القول الثاني: أن نسبة التضخم النقدي التي يعامل فيها معاملة الجوائح هي التي تفقد فيها النقود ثلث قيمتها فما فوق([13]).
القول الثالث: أن نسبة التضخم النقدي التي يعامل فيها معاملة الجوائح هي التي تفقد فيها النقود أكثر من نصف قيمتها([14]).
القول الرابع: أن نسبة التضخم النقدي التي يعامل فيها معاملة الجوائح هي التي تفقد فيها النقود ثلثي قيمتها([15]).
وأقرب هذه الأقوال إلى الصواب على هذا التخريج هو القول الأول، وهو الرد إلى العرف؛ لأن كل ما لم يُحدّ في الشرع فالمرجع في تحديده إلى العادة والعرف([16]).
([1]) ينظر: مجلة مجمع الفقه الإسلامي (9/2/446، 625)، مجلة البحوث الفقهية المعاصرة ، حكم الشرع في تعديل ما ترتب بذمة المدين، للشيخ عبد الله بن بيه، العدد (30)، ص (39).
([2]) ينظر: مجلة المجمع الفقهي الإسلامي (6/8/341).
([3]) رواه مسلم، كتاب المساقاة ، باب وضع الجوائح، رقم (1554).
([4]) ينظر: مجموع الفتاوى (30/266).
([5]) ينظر: مجلة البحوث الفقهية المعاصرة، ، حكم الشرع في تعديل ما ترتب بذمة المدين، للشيخ عبد الله بن بيه، العدد (30)، ص (40).
([6]) ينظر: مجلة البحوث الفقهية المعاصرة، ، حكم الشرع في تعديل ما ترتب بذمة المدين، للشيخ عبد الله بن بيه، العدد (30)، ص (40).
([7]) ينظر: إعلام الموقعين (2/339).
([8]) رواه مسلم، كتاب المساقاة، باب وضع الجوائح، رقم (1554)، من حديث جابر t.
([9]) ينظر: الأشباه والنظائر لابن نجيم ص (96)، الأشباه والنظائر للسيوطي ص (176).
([10]) ينظر: حاشية الرهوني (5/121).
([11]) تنبيه: أصل هذا الخلاف مبني على الخلاف في مقدار الجائحة التي يثبت لها حكم الوضع،
وقد اختلفوا في ذلك على قولين:
الأول: يوضع قليل الجائحة و كثيرها.
الثاني: لا توضع الجائحة إلا إذا بلغت الثلث.
[ينظر: الجوائح وأحكامها ص (212-213)].
([12]) ينظر: مجلة البحوث الفقهية المعاصرة، حكم الشرع في تعديل ما ترتب بذمة المدين، للشيخ عبد الله بن بيه، العدد (30)، ص (50).
([13]) ينظر: أحكام تغير قيمة العملة النقدية وأثرها في تسديد القرض ص (130)، مجلة مجمع الفقه الإسلامي (9/2/446).
([14]) ينظر: مجلة مجمع الفقه الإسلامي (9/2/631).
([15]) ينظر: مجلة مجمع الفقه الإسلامي (9/2/364).
([16]) ينظر: نثر الورود على مراقي السعود (2/580)، العرف وأثره في الشريعة والقانون ص(109).
أحدث أقدم

نموذج الاتصال