التنافسية: مفهوم ديناميكي وإشكالية تعريف في سياق الاقتصاد العالمي الجديد
يُعدّ مفهوم التنافسية من المفاهيم الحديثة التي اكتسبت أهمية متزايدة في الفكر الاقتصادي والسياسي المعاصر. ومن السمات الأساسية لهذا المفهوم أنه لا يخضع لنظرية اقتصادية عامة وموحدة، مما يجعله مجالاً خصباً للنقاش والتحليل المستمر.
النشأة والسياق التاريخي لبروز المفهوم:
لم يظهر الاهتمام الحقيقي بالتنافسية إلا في سياقات اقتصادية حرجة محددة، مما يبرز طابعه الـمُستجيب للأزمات والتحديات الدولية:
- الظهور الأول (1981-1987): شهدت هذه الفترة أول ظهور بارز لمفهوم التنافسية كاستجابة مباشرة للأزمة الاقتصادية التي مرت بها الولايات المتحدة الأمريكية. تجلت هذه الأزمة في ظهور عجز كبير وغير مسبوق في الميزان التجاري الأمريكي، خصوصاً في تعاملاتها مع قوة اقتصادية صاعدة هي اليابان. تزامنت هذه الظاهرة مع تضخم حجم الديون الخارجية الأمريكية. هذا التحدي دفع واشنطن للبحث عن أسباب تآكل قدرتها على المنافسة دولياً، وبالتالي برز مفهوم التنافسية كأداة للتحليل والقياس.
- الاهتمام المتجدد في التسعينيات: عاد الاهتمام بمفهوم التنافسية ليتصاعد بقوة مع بداية سنوات التسعينيات. هذا الازدياد في الأهمية كان نتاجاً مباشراً لتحولات جذرية في النظام الاقتصادي العالمي، أبرزها ظاهرة العولمة، التي ألغت الحدود أمام حركة السلع ورؤوس الأموال، والتوجه العام لتطبيق اقتصاديات السوق وتحرير التجارة الدولية.
التداخل المفاهيمي وديناميكية التغير:
يواجه الباحثون صعوبة بالغة في تحديد تعريف دقيق ومضبوط للتنافسية، ويعود هذا التعقيد إلى سببين رئيسيين:
- التداخل مع مفاهيم واسعة: يتداخل مفهوم التنافسية بشكل وثيق مع مفاهيم اقتصادية كبرى مثل النمو الاقتصادي، التنمية الاقتصادية، وازدهار الدول. فالتنافسية غالبًا ما تُعتبر الوسيلة أو النتيجة لتحقيق هذه الأهداف الكلية.
- الديناميكية والتغير المستمر: لم يظل مفهوم التنافسية ثابتاً، بل خضع لتغيرات مستمرة عكست الأولويات الاقتصادية العالمية:
- السبعينيات: ارتبط المفهوم بشكل أساسي بـالتجارة الخارجية وتوازناتها.
- الثمانينيات: تحول التركيز ليرتبط بـالسياسة الصناعية للدول وقدرتها على دعم قطاعاتها الإنتاجية.
- التسعينيات: أصبح المفهوم مرادفاً لـالسياسة التكنولوجية والابتكار كعنصر محرك للنمو.
- التعريف الحالي والشامل: أصبح المفهوم يتجه نحو هدف أكثر شمولية وإنسانية، حيث تعني تنافسية الدول مدى قدرتها على رفع مستويات معيشة مواطنيها وتحقيق الرفاه الاقتصادي والاجتماعي.
إشكالية التعريف بين التضييق والتوسع:
شهدت الأوساط الاقتصادية الدولية، سواء بين الاقتصاديين الأفراد أو الهيئات الدولية، اختلافاً كبيراً في تحديد مفهوم التنافسية. يمكن تلخيص هذا الاختلاف في اتجاهين رئيسيين:
- المفهوم الضيق (تنافسية السعر والتجارة): يختصر هذا الاتجاه التنافسية في قدرة الدولة على التنافس من حيث السعر وجودة المنتجات الموجهة للتجارة الخارجية فقط.
- المفهوم الواسع والشامل: يتبنى هذا الاتجاه تعريفاً يكاد يشمل جميع مناحي النشاط الاقتصادي في الدولة، من البنية التحتية إلى جودة التعليم والحوكمة. هذا الاتساع هو ما يفسر التعداد الكبير والتباين الواضح في المؤشرات المستعملة لقياس القدرة التنافسية بين التقارير الدولية المختلفة.
تصنيف المقاربات لتعريف التنافسية: النطاق الدولي والقصور المؤسساتي
يوجد العديد من المقاربات التي اعتمدها الباحثون لتعريف التنافسية، وعلى الرغم من تباين هذه التعاريف، إلا أنها تتشارك في نقطة محورية وهي أن التنافسية يتم الحديث عنها دوماً على المستوى الدولي للدول.
في هذا الإطار، اعتمدت إحدى المقاربات الشائعة على تقسيم هذه التعاريف إلى ثلاث مجموعات رئيسية، اعتمادًا على المؤشرات التي تتخذها أساسًا لتحديد القدرة التنافسية للدولة:
1. المجموعة الأولى: التجارة الخارجية كمعيار وحيد
تتضمن هذه المجموعة كل التعاريف التي تركز حصرياً على حالة التجارة الخارجية للدول كمقياس وحيد للتنافسية. وبموجب هذا التصنيف، تُعتبر الدولة منافسة دولياً إذا كانت تحقق أداءً إيجابياً ومميزاً في ميزانها التجاري، أو إذا تمكنت من زيادة حصتها في الأسواق العالمية. هنا يتم إهمال أي عوامل داخلية أو اجتماعية أخرى.
2. المجموعة الثانية: التجارة ومستويات المعيشة (المقاربة المزدوجة)
تتميز هذه المجموعة بأنها أكثر شمولية من سابقتها، حيث تتضمن التعاريف التي تأخذ في عين الاعتبار بُعدين متكاملين لتحديد التنافسية:
- حالة التجارة الخارجية للدول (الأداء الاقتصادي الخارجي).
- مستويات المعيشة للأفراد (الأداء الاجتماعي والاقتصادي الداخلي). وبالتالي، وفقاً لهذه المقاربة، لا يكفي تحقيق فائض تجاري؛ بل يجب أن ينعكس هذا الأداء إيجاباً على رفاهية المواطنين ورفع مستوى معيشتهم.
3. المجموعة الثالثة: مستويات المعيشة كمعيار نهائي
تتبنى هذه المجموعة رؤية تركز على الهدف الأسمى للتنمية. فهي تتضمن كل التعاريف التي تعتمد على مستويات المعيشة للأفراد فقط كمعيار لتحديد تنافسية الدولة. هذا يعني أن التنافسية تُقاس بالقدرة الفعلية للدولة على توفير حياة ذات جودة عالية لمواطنيها، بغض النظر عن التفاصيل الدقيقة للأداء التجاري الخارجي، طالما أن الاقتصاد ككل يخدم هذا الهدف.
الانتقاد الموجه لهذه المقاربة:
على الرغم من أن هذا التقسيم يسهل فهم التباين في تعاريف التنافسية على مستوى الدول، إلا أنه تعرض لانتقاد جوهري يركز على قصوره ونطاقه المحدود. يتمثل هذا الانتقاد في أن هذه المقاربة لا تتعرض لتعاريف التنافسية على مستوى المؤسسات (الشركات) أو على مستوى قطاع النشاطات الاقتصادية (كقطاع الصناعة أو الخدمات). فالتنافسية تبدأ على مستوى المؤسسة قبل أن تتجمع لتشكل التنافسية الوطنية، وإهمال هذا المستوى الجزئي يُعتبر نقصاً في التحليل الشامل للمفهوم.
مقاربات تصنيف تعاريف التنافسية على المستوى الدولي:
لتبسيط الفهم، اعتمدت بعض المقاربات الأكاديمية على تصنيف التعاريف المتباينة للتنافسية إلى مجموعات، تشترك جميعها في إطار الحديث عن المستوى الدولي للدولة:
- المجموعة الأولى (تجارة فقط): تشمل التعاريف التي تركز فقط على حالة التجارة الخارجية للدولة، مثل الميزان التجاري وحصة الدولة من السوق العالمية.
- المجموعة الثانية (تجارة ومستوى معيشة): تضم التعاريف التي تجمع بين حالة التجارة الخارجية للدولة وقدرتها على رفع مستويات المعيشة للأفراد فيها.
- المجموعة الثالثة (مستوى معيشة فقط): تتضمن التعاريف التي تكتفي بالتركيز على مستويات المعيشة للأفراد كمعيار وحيد للتنافسية الوطنية.
الانتقاد الموجه لهذه المقاربة: على الرغم من فائدتها، فإن هذا التصنيف يظل قاصراً لأنه لا يتعرض على الإطلاق لتعاريف التنافسية على مستوى المؤسسات الفردية (الشركات) أو على مستوى قطاعات النشاط الاقتصادي (مثل تنافسية القطاع السياحي أو الصناعي)، وهي مستويات لا تقل أهمية عن المستوى الوطني الكلي.