السياق التاريخي: ما قبل لجنة ملنر
لفهم أهمية لجنة ملنر، يجب العودة إلى ما قبلها. في عام 1919، اشتعلت الثورة المصرية بعد أن قامت السلطات البريطانية بنفي سعد زغلول ورفاقه. لم تكن هذه الثورة مجرد انتفاضة عابرة، بل كانت تعبيرًا عن رفض شعبي شامل للاحتلال والحماية البريطانية التي فُرضت على مصر منذ عام 1914. أظهرت الثورة فشل السياسات البريطانية القائمة على القوة، وأثبتت أن الشعب المصري لم يعد يقبل بالوضع الراهن.
في هذه الأجواء، أدركت بريطانيا أنها تواجه مشكلة حقيقية. الحل العسكري لم يكن مجديًا، والدولة المصرية كانت على وشك الانهيار. لذلك، كان إرسال لجنة تحقيق برئاسة اللورد ملنر، وزير المستعمرات البريطاني، محاولة لتغيير استراتيجيتها من القوة إلى الدبلوماسية.
أهداف بريطانيا من إرسال لجنة ملنرك
لم تكن بريطانيا تهدف من إرسال لجنة ملنر إلى منح مصر استقلالها الكامل، بل كان لها أهداف محددة ومعقدة:
- اعتراف شعبي بالحماية: كان الهدف الرئيسي هو الحصول على "اعتراف" من الشعب المصري نفسه بشرعية الحماية البريطانية. لو تفاوضت اللجنة مع المصريين ووصلت إلى اتفاق، فإن بريطانيا كانت ستعلن أن هذا الاتفاق يمثل إرادة الشعب، مما سيُعزز موقفها الدولي.
- تجاوز الوفد المصري: كانت بريطانيا ترى أن الوفد المصري، بقيادة سعد زغلول، أصبح يمثل عقبة كبيرة أمام مصالحها. لذا، كانت اللجنة تهدف إلى تجاوز الوفد وتهميشه، عبر فتح قنوات اتصال مباشرة مع فئات أخرى من الشعب المصري.
- امتصاص الغضب: كان قدوم اللجنة أيضًا محاولة لامتصاص الغضب الشعبي وتخفيف حدة الثورة، عبر إيهام الشعب بأن بريطانيا جادة في حل القضية.
التفاصيل الدقيقة لموقف الشعب المصري:
لم يكن قرار مقاطعة لجنة ملنر قرارًا سهلًا، بل كان يعتمد على وعي سياسي عميق وتنسيق محكم بين مختلف فئات الشعب.
- قيادة الوفد: أرسل سعد زغلول تعليماته من منفاه في باريس إلى اللجنة المركزية للوفد في القاهرة. كانت هذه التعليمات بمثابة خطة استراتيجية لمواجهة المخطط البريطاني. كان الوفد يدرك أن التفاوض مع ملنر يعني التنازل عن وكالة الشعب، وهي الوكالة التي منحتهم الشرعية للحديث باسم الأمة.
- التفاف الشعب: كان التفاف الشعب حول الوفد مذهلاً، وشمل كل فئات المجتمع. لم يقتصر الأمر على المثقفين وقيادات الحركة الوطنية، بل شارك في المقاطعة العمال والفلاحون، حتى تلاميذ المدارس الذين تظاهروا بعنف. كانت هذه المقاطعة الشاملة دليلًا على أن الحركة الوطنية لم تكن مقتصرة على النخبة، بل كانت نابعة من وعي جماهيري واسع.
- أهمية المقاطعة: كانت المقاطعة أكثر من مجرد احتجاج، فقد كانت استراتيجية ناجحة أظهرت:
- وحدة الصف: أن الشعب المصري موحد في مطالبه.
- الولاء للوفد: أن الوفد هو الممثل الشرعي الوحيد.
- فشل المخطط البريطاني: أن بريطانيا لا يمكنها فرض إرادتها على الشعب.
تحول موقف ملنر والنتائج المترتبة:
بعد فشل مهمته في مصر، عاد اللورد ملنر إلى بريطانيا، وأصدر تقريره الشهير الذي أوضح فيه فشل مهمته. أدرك ملنر أن الحل الوحيد هو التفاوض مع سعد زغلول نفسه.
- فشل المفاوضات: بدأت مفاوضات ملنر-سعد في لندن، لكنها فشلت بسبب إصرار بريطانيا على "التحفظات الأربعة" التي كانت ستقيد استقلال مصر. كان من أهم هذه التحفظات السيطرة البريطانية على قناة السويس والشؤون الخارجية والدفاع عن مصر.
- النفي الثاني والتصريح: بعد فشل المفاوضات، قامت بريطانيا بنفي سعد زغلول للمرة الثانية إلى سيشيل، مما أدى إلى تجدد الثورة. لكن في النهاية، وتحت ضغط الأحداث، اضطرت بريطانيا إلى إصدار تصريح 28 فبراير 1922.
تأثير لجنة ملنر على الحركة الوطنية:
بالرغم من فشل مهمة لجنة ملنر، إلا أن هذه الأحداث كان لها تأثير عميق على الحركة الوطنية المصرية:
- ترسيخ مكانة الوفد: أظهرت المقاطعة أن الوفد هو الممثل الشرعي الوحيد للأمة، مما رسّخ مكانته السياسية.
- تأكيد قوة الوعي الشعبي: أثبتت التجربة أن وعي الشعب وتضامنه أقوى من أي محاولة بريطانية لتفتيت صفوفه.
- الاستقلال المشروط: أدت الأحداث إلى إصدار تصريح 28 فبراير 1922، الذي كان خطوة مهمة نحو الاستقلال، وإن كان استقلالًا مشروطًا.
بشكل عام، لم تكن لجنة ملنر مجرد حدث عابر، بل كانت نقطة تحول أثبتت أن إرادة الشعب المصري كانت أقوى من القوة العسكرية والدبلوماسية البريطانية.