تغير النقود الاصطلاحية بالغلاء والرخص.. إذا غلت النقود الاصطلاحية الفلوس أو رخصت بعد التعامل بها وقبل قبضها فالواجب رد قيمتها



اختلف الفقهاء فيما يترتب على غلاء النقود الاصطلاحية الفلوس ورخصها([1]) بعد التعامل بها وقبل قبضها على قولين في الجملة:
القول الأول: أنه إذا غلت النقود الاصطلاحية الفلوس أو رخصت بعد التعامل بها وقبل قبضها فالواجب رد قيمتها.
وهذا ما ذهب إليه أبو يوسف، وعليه الفتوى عند الحنفية([2])، وقول عند الحنابلة([3]) اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية فيما نقل عنه([4])، والرهوني([5]) المالكي فيما إذا كان التغير كثيراً([6]).
القول الثاني: أنه إذا غلت النقود الاصطلاحية الفلوس أو رخصت بعد التعامل بها وقبل قبضها فالواجب بذل ما تم التعاقد عليه ولا نظر إلى هذه التغيرات.
هذا ما ذهب إليه أبو حنيفة ~، وقال به أبو يوسف أولاً([7])، وهو مشهور مذهب المالكية([8])، ومذهب الشافعية([9])، والحنابلة([10]).

أدلة القول الأول:
أولاً: أن نقصان قيمة النقود الاصطلاحية الفلوس بالرخص بعد التعامل وقبل القبض عيب فيها فلا يلزم الدائن قبولها([11])؛ لأن من أهم أوصاف الفلوس رغبة الناس فيها وقبولها وسيطاً للتبادل وذلك مرتبط بقوتها الشرائية، وبرخصها يفوت هذا الوصف. فإلزام الدائن بها بعد تعيبها ظلم ومخالفة لمقتضى العدل.
يناقش هذا: بأن التغير بالرخص لا يوجب ثبوت القيمة كما لو رخصت النقود الخلقية من الذهب والفضة([12]).
يجاب على هذا: بأنه قياس مع الفارق ، فإن تغير القيمة في النقود الاصطلاحية الفلوس كثير جداً بخلاف النقود الخلقية، كما أن قدر التغير في قيمتها قد يكون كبيراً فيلحقها بما لا فائدة فيه([13]). وعليه فإنه يمتنع القياس مع هذه المخالفة؛ لأن من شروط صحة القياس استواء الأصل والفرع في علة واحدة من غير فارق بينهما([14]).
ثانياً: أن رد قيمة النقود الاصطلاحية الفلوس إذا غلت أو رخصت بعد التعامل بها وقبل قبضها جارٍ على سنن العدل الواجب في جميع المعاملات([15]). وذلك ((أن المالين إنما يتماثلان إذا استوت قيمتهما، وأما مع اختلاف القيمة فلا تماثل))([16]), فردها بعد نقص قيمتها لا يتحقق به المثلية ؛لأن المثلية إنما تكون بالمثل من حيث الصورة والمعنى أو بالمثل من حيث المعنى أي القيمة([17]). وبالرخص تتعذر المثلية الكاملة فتجب القيمة؛ لما فيه من الضرر على الدائن بنقص القيمة([18]).
وقد ذكر الفقهاء أمثلة لعدم اعتبار المثلية إذا كانت تفوت معنى مقصوداً ، فالماء على سبيل المثال مثلي فإذا غصب في غلاء أو صحراء فلا يكفي رد مثله في حال السعة والرخاء؛ لكون رد المثل يهدر القيمة والمالية فيجب اعتبار الزمان والمكان والحال في الرد([19]). وقد ذكر فقهاء الحنابلة أيضاً أن من أقرض حنطة ثم ابتلت أو عفنت فإنه لا يلزم الدائن قبولها إذا ردت عليه؛ لأن عليه في ذلك ضرراً([20])، و ((لأنه لم يدفع ذلك على صفة حقه))([21]). وفي كلام الإمام مالك ~ ما يشعر بعدم اعتبار المثلية الصورية في الفلوس حيث لم يرَ جواز أن يكون رأس مال المضاربة([22]) من الفلوس وعلل ذلك، فقال ~: ((لا أراه جائزاً؛ لأنها تحول إلى الكساد والفساد فلا تنفق))([23]).
ثالثاً: أن الدائن دفع شيئاً منتفعاً به ليأخذ شيئاً منتفعاً به فلا يظلم بإعطائه مالا نفع فيه([24]).
يناقش هذا: بأن الرخص في النقود الاصطلاحية الفلوس لا يصيّرها كذلك إذ إنه لا يلغي قيمتها بالكلية.
يجاب: بأن رخص النقود الاصطلاحية الفلوس إذا كان شديداً أو كثيراً فإنه يفسدها ويفقد الثقة بها، فيسارع الناس إلى التخلص منها لفساد المعاملة بها وعدم صلاحيتها ثمناً تقوّم به الأشياء. وهذا هو المراد بقول المستدل: فلا يظلم بإعطائه ما لا نفع فيه. أما إذا كان رخص النقود الاصطلاحية غير شديد بأن يكون يسيراً لا يعد غبناً في العادة فهذا غير معتبر؛ لأنه لا يفوت به غرض صاحب الحق ولا يلحقه به ضرر. ويتبين هذا بمعرفة أن من أخص صفات الثمن وأهمها كونه ((المعيار الذي يعرف به تقويم الأموال، فيجب أن يكون محدداً مضبوطاً لا يرتفع ولا ينخفض))([25]) ارتفاعاً وانخفاضاً يفقده هذه الصفة الرئيسة من صفات النقود.
رابعاً: قياس رخص النقود الاصطلاحية الفلوس على كسادها بجامع أنهما نقصان في القيمة. وذلك عيب يثبت القيمة في الكساد فكذلك في الرخص([26]).
يناقش هذا بما يأتي:
الأول: أن الكساد يلغي القيمة بالكلية فهو نقصان إبطال بخلاف الرخص فالعيب به لا يلغي القيمة بالكلية.
يجاب: بأن وجه القياس هو إثبات القيمة لأجل العيب بالنقص سواء أفضى إلى الكساد والإبطال أو إلى الرخص فقط.
الثاني: أنه قياس على أمر مختلف فيه فإن العلماء قد اختلفوا فيما يترتب على كساد الفلوس كما تقدم([27])، فلا يصح القياس؛ لأن من شرطه أن يكون الأصل متفقاً عليه([28]).

أدلة القول الثاني:
أولاً: أن رخص النقود الاصطلاحية الفلوس وغلاءها لا يبطل ثمنيتها فلا يجب غيرها([29]).
يناقش هذا: بما تقدم في أدلة القول الأول من أن رخص النقود الاصطلاحية وإن لم يلغ ثمنيتها فإنه ينقصها وقد يفقد الثقة بها ويزهد في قبولها. وهذا عيب يثبت للدائن وجوب رد القيمة.
ثانياً: أن رخص النقود الاصطلاحية الفلوس وغلاءها لا يسقط عنها وصف المثلية فيجب فيها المثل للدائن([30]).
يناقش هذا: بما تقدم([31]) من أن المقصود من الفلوس ماليتها وثمنيتها لا عينها وذاتها، وفي حال الرخص تضعف المثلية المعنوية، وإن بقيت المثلية الصورية. ولهذا لا يمكن الجزم بأن رد مثل الفلوس للدائن بعد رخصها رد للمثل التام الكامل؛ لفوات المثلية المعنوية. ومما يجب اعتباره في المثل ((اعتبار ما فيه من المعاني التي تزيد بها القيمة، فيرد ما يجمع تلك كلها حتى لا يفوت عليه شيء))([32]). فإذا تعذر ذلك فالمقدم هو المثلية المعنوية, فتجب القيمة ضرورة؛ لفوات المثلية المعنوية. ولأن المثلي يضمن بالقيمة إذا تعذر([33]).
ثالثاً: أن إيجاب القيمة لرخص النقود الاصطلاحية الفلوس يفضي إلى فتح باب الربا([34])؛ لأنه اعتياض عن الدين بأكثر منه.
يناقش هذا بما يأتي:
الأول: أن علة منع الربا في الأموال الربوية هي ما فيه من الظلم وأكل المال بالباطل، فإن الزيادة التي يأخذها رب الدين يأخذها على غير عوض([35]). وإيجاب رد القيمة لرخص النقود الاصطلاحية الفلوس ليس من ذلك؛ أما على قول الجمهور فانتفاء الربا في رد القيمة واضح؛ لأن الفلوس ليست من أموال الربا كما تقدم. وأما على القول بأنها ربوية فإن تقديرها يكون من غير جنسها، وعند ذلك ينتفي محذور الربا.
الثاني: أن الزيادة في مثل هذا لا تعدُّ من الربا المحرم إذ هي في الحقيقة تعويض لنقص القيمة التبادلية للفلوس فلا ظلم فيها، وإنما الظلم في الزيادة إذا كانت دون مقابل([36]).
رابعاً: أن رخص النقود الاصطلاحية الفلوس وغلاءها لا يغير ما ثبت في الذمة كما لو رخصت الحنطة الواجبة في الذمة أو غلت([37]).
نوقش هذا: بأنه قياس مع الفارق فإن الفلوس ثمن يعرف بها تقويم الأموال، وليست مقصودة لذاتها، أما الحنطة فهي قوت مقصود لذاته، والغلاء والرخص لا يؤثر على هذا المعنى بخلافه في الفلوس فرخصها عيب يؤثر فيها تأثيراً بالغاً([38]).

الترجيح:
الذي يظهر بالنظر إلى ما استدل به كل فريق أن أقرب القولين إلى الصواب القول الأول، وأنه إذا غلت النقود الاصطلاحية الفلوس أو رخصت بعد التعامل بها وقبل قبضها فالواجب رد قيمتها؛ لقوة ما استدلوا به.
والذي يظهر للباحث أيضاً أن ما صرح به الرهوني من اشتراط أن يكون التغير في قيمة الفلوس كبيراً للانتقال عن وجوب المثل إلى القيمة حيث قال ~: ((وينبغي أن يقيد ذلك بما إذا لم يكثر ذلك جداً حتى يصير القابض لها كالقابض لما لا كبير منفعة فيه))([39])، لا يختلف كثيراً عن قول غيره من القائلين بوجوب رد القيمة عند رخص الفلوس أو غلائها كما هو ظاهر من تعليلاتهم حيث عللوا وجوب القيمة إذا رخصت الفلوس أو غلت بأنه عيب، كما تقدم في أدلتهم. ويؤيد ذلك أيضاً ما ذكره الفقهاء في أوصاف العيب الذي يثبت الخيار، وأنه ما نقص القيمة أو العين نقصاً يفوت به غرض صحيح مما لا يتغابن الناس بمثله عادة ويغلب السلامة منه([40]). وباستصحاب هذا يتبين أن التغير المؤثر هو الذي يفوت به غرض الدائن مما لا يتغابن الناس بمثله عادة ويلحقه به مضرة، وهذا ظاهر لمن تأمل كلامهم([41])، والله أعلم.
([1]) لم يذكر الفقهاء فيما عدا الرهوني فيما وقفت عليه من كلامهم حداً للرخص الذي يجري فيه هذا الخلاف، و سأتناول ذلك في الترجيح.
([2]) ينظر: المبسوط (22/34)، البحر الرائق (6/219)، مجموع رسائل ابن عابدين، تنبيه الرقود ص (58)، حاشية رد المحتار (4/534).
([3]) ينظر: الفروع (4/203)، الإنصاف (5/127)، المبدع (4/207).
([4]) ينظر: منح الشفا الشافيات ص (170)، الدرر السنية (5/110-111).
([5]) محمد بن أحمد بن محمد الرهوني، فقيه مالكي، آلت إليه الفتوى في المغرب، له تآليف مفيدة، منها: حاشيته على شرح الزرقاني، توفي سنة (1230هـ).
[ ينظر: شجرة النور الزكية في طبقات المالكية ص (378)، معجم المؤلفين (3/109)].
([6]) ينظر: حاشية الرهوني (5/121)، حاشية المدني (5/118).
تنبيهان:
أولاً: عدَّ بعض الباحثين قول الرهوني قولاً مستقلاً، والذي يظهر لي أن في هذا نظراً؛ لأن قول الرهوني موافق للقائلين بالقيمة أو قريب منه؛ لأن الرخص الذي يثبت للدائن القيمة هو ما كان عيباً كما سيتبين، وقد وقفت على كلام للدكتور رفيق المصري متفق مع هذا حيث قال عن قول الرهوني: ((ولعل هذا القول الثالث تفسير القول الثاني فيكمله. ولا يُعدُّ قولاً ثالثاً)).
ثانياً: حاول بعض الفقهاء المعاصرين حمل كلام الرهوني على حال انقطاع الفلوس لا على رخصها، ولكن هذه المحاولة غايتها نفي القول عن الرهوني لكنها لا تلغي هذا القـــــــول.
والذي يظهر لي أن كلام الرهوني في رخص الفلوس لا انقطاعها حيث قال: ((وأما إذا تغيرت بزيادة أو نقص فلا. وممن صرح بذلك أبو سعيد بن لب. قلت: وينبغي أن يقيد ذلك بما إذا لم يكثر ذلك جداً حتى يصير القابض لها كالقابض لما لا كبير منفعة فيه لوجود العلة التي علل بها المخالف، والله أعلم)).
[ ينظر: ربط الحقوق والالتزامات الآجلة بتغير الأسعار ص (168-169)، الجامع في أصول الربا ص (237)].
([7]) ينظر: بدائع الصنائع (5/242)، شرح فتح القدير (7/156)، البحر الرائق (6/219-220)، حاشية رد المحتار (4/534، 5/162، 269).
([8]) ينظر: المدونة الكبرى (3/116)، المعونة للقاضي عبد الوهاب (2/1024)، مواهب الجليل (4/341)، البهجة في شرح التحفة (2/23).
([9]) ينظر: تحفة المحتاج (4/258)، حاشية الجمل على شرح المنهاج (3/38)، الحاوي للفتاوي (1/129)، فتاوى الرملي (3/192).
([10]) ينظر: منتهى الإرادات (1/398)، الإقناع للحجاوي (2/304-305)، الممتع شرح المقنع (3/208).
([11]) ينظر: مجموعة رسائل ابن عابدين، تنبيه الرقود ص (62)، حاشية الرهوني (5/120)، مطالب أولي النهى (3/242).
([12]) ينظر: ص (114).
([13]) ينظر: بدائع الصنائع (5/242).
([14]) ينظر: التحبير شرح التحرير (7/3116-3125).
([15]) ينظر: أحكام القرآن لابن العربي (1/97)، مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام (28/385)، الموافقات للشاطبي (3/47).
([16]) الدرر السنية (5/112)، ينظر: مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام (29/414).
([17]) ينظر: المبسوط (14/16)، بدائع الصنائع (5/26- 27، 6/160، 7/149)، المجموع شرح المهذب (10/107)، المغني (7/480).
([18]) ينظر: المبسوط (14/30)، المنثور في القواعد (2/337)، كشاف القناع (3/314)، شرح القواعد الفقهية للزرقا ص (174).
([19]) ينظر: الفروق للقرافي (1/214)، قواعد الأحكام (1/180-181)، الأشباه والنظائر للسيوطي ص (518)، مغني المحتاج (2/282)، مطالب أولي النهى (4/53).
([20]) ينظر: كشاف القناع (3/314).
([21]) الممتع شرح المقنع (3/208).
([22]) المضاربة: هي نوع من أنواع الشركة في الربح يكون فيها رأس المال من طرف، والعمل والسعي من الطرف الآخر.
 [ينظر: معجم المصطلحات الاقتصادية في لغة الفقهاء ص (312)، القاموس الفقهي ص (222)].
([23]) المدونة الكبرى (5/86).
([24]) ينظر: حاشية الرهوني (5/120).
([25]) إعلام الموقعين (2/137).
([26]) ينظر: منح الشفا الشافيات ص (170).
([27]) ص (116).
([28]) ينظر: أصول الفقه لابن مفلح (3/723)، التحبير شرح التحرير (7/3165).
([29]) ينظر: المبسوط (14/30)، بدائع الصنائع (5/242).
([30]) ينظر: المبسوط (14/30)، مجموع رسائل ابن عابدين، تنبيه الرقود ص (5/321)، منح الجليل (4/531)، المجموع شرح المذهب (9/341)، الحاوي للفتاوي (1/129)، الشرح الكبير لابن أبي عمر (12/336)، شرح منتهى الإرادات (3/326).
([31]) ص (117). 
([32]) تحفة المحتاج (5/24).
([33]) ينظر: إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام (2/120).
([34]) ينظر: تكملة شرح فتح القدير (9/328)، أحكام الأوراق النقدية والتجارية ص (560)، النقود وظائفها الأساسية وأحكامها الشرعية ص (497).
([35]) ينظر: مجموع الفتاوى (20/341،250، 29/419)، إعلام الموقعين (1/387)، الموافقات (4/40).
([36]) ينظر: قاعدة المثلي والقيمي في الفقه الإسلامي ص (231).
([37]) ينظر: المبسوط (24/29)، الفتاوى الفقهية الكبرى (2/227-228)، المغني (6/442).
([38]) ينظر: قاعدة المثلي والقيمي في الفقه الإسلامي ص (194).
([39]) حاشية الرهوني (5/121).
([40]) ينظر: البحر الرائق (6/42)، حاشية رد المحتار (5/4)، بداية المجتهد (2/173)، الخرشي على مختصر خليل (5/35)، المنثور في القواعد (2/425)، الأشباه والنظائر للسيوطي ص (704)، مطالب أولي النهى (3/106)، الخيار وأثره في العقود ص (365).
([41]) ينظر: المبسوط (14/30)، منح الشفا الشافيات ص (171)، الدرر السنية (5/112).


مواضيع قد تفيدك: