العقود التوثيقية: الماهية، خصائص الحجية المطلقة والقوة التنفيذية، والفروقات الجوهرية مع العقد العرفي كركيزة للأمن القانوني

العقود التوثيقية: الإطار القانوني والأهمية

العقد التوثيقي هو محرر يكتبه ويوقعه موظف عمومي (الموثق أو العدل) مختص ومرخص له قانونًا بذلك، في حدود سلطته ومكانه، ووفقًا للإجراءات التي يحددها القانون. يعد هذا النوع من العقود ركيزة أساسية في النظام القانوني لضمان قوة الإثبات وتحقيق الاستقرار في المعاملات.


1. التعريف والجهات المختصة بالتوثيق:

  • التعريف: العقد التوثيقي هو صك رسمي يُمنح قوة الإثبات المطلقة (حجية مطلقة) لما ورد فيه من وقائع قام بها الموثق أو تحققت بحضوره، أو ما أقر به الأطراف أمامه.
  • الجهات المختصة (في الأنظمة العربية):
  1. الموثق (العدل): وهو الموظف العمومي أو المهني الذي يحرر العقود ويشهد على توقيعات الأطراف ويدون إقراراتهم، ويختص عادة بالعقود المدنية والتجارية والشخصية كعقود البيع، الرهن، الإيجار، الوصايا، والتركات.
  2. الموظف الإداري: قد تختص جهات إدارية معينة بتوثيق بعض العقود (مثل كاتب الضبط في المحكمة أو القنصل في الخارج)، لكن الموثق (العدل) يبقى هو الأصل في معظم المعاملات الهامة.

2. الخصائص المميزة للعقد التوثيقي:

يتميز العقد التوثيقي عن العقد العرفي (المحرر بين الأطراف دون تدخل موظف عمومي) بعدة خصائص جوهرية:

أ. الرسمية (L'Authenticité):

هذه هي السمة الأبرز، وتعني أن العقد يكتسب صفة الرسمية بمجرد تحريره والتوقيع عليه من قبل الموثق، فيصبح دليلاً قاطعًا لا يمكن الطعن فيه إلا بادعاء التزوير (الطعن بالتزوير).

ب. الحجية المطلقة (Force Probante Absolue):

  • الحجية في البيانات: يكون العقد التوثيقي حجة على الكافة بما دونه الموثق بنفسه، أو ما تم بحضوره، مثل تاريخ وساعة تحرير العقد، أسماء وصفات الحاضرين، وتوقيعاتهم.
  • الحجية في الإقرارات: يحوز العقد قوة إثبات لما أقر به المتعاقدون أمام الموثق، لكن هذه الإقرارات قابلة لإثبات العكس بالطرق العادية للإثبات، بخلاف البيانات التي يثبتها الموثق بنفسه.

ج. النفاذ (La Force Exécutoire):

تتمتع بعض العقود التوثيقية، بموجب القانون، بقوة التنفيذ الجبري (القوة التنفيذية) دون الحاجة لاستصدار حكم قضائي مسبق، خصوصاً تلك المتعلقة بالالتزامات المالية الثابتة والمحققة (كعقود الرهن أو القروض). الموثق يمنح العقد الصيغة التنفيذية.


3. وظيفة الموثق ودوره في العقد:

لا يقتصر دور الموثق على مجرد تحرير النص، بل يمتد ليشمل عدة مهام حاسمة:

  • التحقق من هوية الأطراف وأهليتهم: يتأكد الموثق من صحة بيانات الأطراف وأهليتهم القانونية لإبرام العقد.
  • ضمان مشروعية العقد: يضمن الموثق أن العقد مطابق للقوانين والأنظمة المعمول بها، وينصح الأطراف حول الآثار القانونية لالتزاماتهم (دور استشاري).
  • حفظ الأصل (المستند): يلتزم الموثق بحفظ الأصول في مكتبه، ولا يمنح الأطراف سوى نسخ تنفيذية أو عادية (عقود أو رسوم).
  • إجراء الإجراءات اللاحقة: يتولى الموثق إتمام الإجراءات الإدارية والضريبية اللازمة (كالتسجيل والتحفيظ العقاري).

4. الفرق الجوهري بين العقد التوثيقي والعقد العرفي:

يوجد فرق جوهري بين المحررات التي تُصاغ بشكل رسمي أمام جهة مختصة والمحررات التي تُصاغ بين الأفراد بشكل عرفي، وتتركز هذه الفروقات حول أربع خصائص رئيسية:

أ. جهة التحرير (المصدر):

يُحرر العقد التوثيقي بالضرورة من قبل موظف عمومي مختص (كالموثق أو العدل)، ويجب أن يكون ضمن حدود سلطته واختصاصه المكاني، مما يضفي عليه صفة الرسمية.

في المقابل، يتم تحرير العقد العرفي بواسطة الأطراف أنفسهم، أو بمساعدة مستشار قانوني أو محامٍ (غير موثق)، ويكون التوقيع عليه مباشرة بين المتعاقدين دون تدخل موظف رسمي.

ب. القوة الإثباتية والحجية:

تتمتع هذه العقود بتباين كبير في قوتها القانونية:

  • العقد التوثيقي: يتمتع بـحجية رسمية مطلقة على الكافة. لا يمكن الطعن في البيانات التي قام بها الموثق أو تحققت بحضوره إلا بـادعاء التزوير وفقاً لإجراءات قضائية صارمة.
  • العقد العرفي: يعتبر حجة فقط على من وقعّ عليه، ويمكن الطعن فيه بالإنكار، ويجوز إثبات عكس ما ورد فيه بكافة طرق الإثبات العادية (كشهادة الشهود والقرائن).

ج. ثبات التاريخ:

  • العقد التوثيقي: التاريخ الذي يدوّنه الموثق هو تاريخ رسمي ثابت، ويعتبر حجة على الغير منذ لحظة تحريره أمام الموثق.
  • العقد العرفي: تاريخه قد لا يكون ثابتًا تجاه الغير إلا إذا تم إضفاء صفة الرسمية عليه لاحقًا، كأن يتم تسجيله في الجهات المختصة أو إيداعه لدى موظف رسمي.

د. القوة التنفيذية:

  • العقد التوثيقي: قد يتمتع بـالقوة التنفيذية الجبرية مباشرة بموجب القانون، مما يعني أنه يمكن البدء في إجراءات التنفيذ على المدين دون الحاجة بالضرورة لرفع دعوى قضائية والحصول على حكم مسبق (بمجرد منح الصيغة التنفيذية).
  • العقد العرفي: لا يتمتع بأي قوة تنفيذية مباشرة. يجب على الدائن رفع دعوى قضائية لاستصدار حكم قضائي يقضي بالدين أو الالتزام، وهذا الحكم هو الذي يكتسب القوة التنفيذية.

باختصار، يضمن العقد التوثيقي أقصى درجات الأمن القانوني وسرعة التنفيذ بفضل تدخل الدولة، بينما يترك العقد العرفي للأطراف مسؤولية إثبات صحته لاحقًا أمام القضاء.


5. أهمية العقود التوثيقية:

  • حماية الأطراف: يضمن تدخل الموثق توازن المراكز القانونية للأطراف، خاصة الطرف الضعيف، ويمنع الشروط التعسفية غير المشروعة.
  • الأمن القانوني (Sécurité Juridique): تُعد العقود التوثيقية عاملاً رئيسيًا في استقرار المعاملات، خصوصًا العقارية منها، حيث يتم حفظ حقوق الملكية بشكل دائم وموثوق.
  • الوفاء بالضرائب: يضمن النظام التوثيقي تحصيل الرسوم والضرائب المستحقة للدولة على المعاملات.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال