المسؤولية القانونية لمراقب الحسابات: تحليل معمق لطبيعة العلاقة وأبعادها
تتجاوز مهام مراقب الحسابات مجرد تدقيق الأرقام، لتشمل مسؤولية قانونية معقدة تجاه أطراف متعددة. إن فهم هذه المسؤولية يتطلب تحليلًا دقيقًا لطبيعة علاقته بالمساهمين، والأركان التي تقوم عليها مسؤوليته المدنية، وامتدادها ليشمل أطرافًا خارجية.
1. العلاقة بين مراقب الحسابات والمساهمين: وكالة أم علاقة خاصة؟
يُشكل القانون رقم 159 لسنة 1981 أساسًا لفهم طبيعة هذه العلاقة، حيث تنص المادة (106) صراحة على أن مراقب الحسابات "وكيل عن مجموع المساهمين". هذا التكييف القانوني يضع العلاقة في إطار "عقد الوكالة بأجر"، ويستتبع تطبيق أحكام القانون المدني، وتحديدًا المادة (704) التي تلزم الوكيل ببذل "عناية الرجل المعتاد". هذا المعيار ليس مجرد عبارة قانونية، بل هو جوهر عمل المراجع، فإذا أثبت أن إهماله أو تقصيره في تطبيق معايير المراجعة المتعارف عليها مهنيًا أدى إلى ضرر، فإنه يُعتبر مسؤولًا.
لكن، الخلاف الفقهي حول طبيعة هذه العلاقة يضيف بُعدًا آخر. فبعض الفقهاء يرى أنها "عقد وكالة"، مستندين إلى أن المراجع ينوب عن المساهمين في التحقق من سلامة البيانات المالية. في المقابل، يرى آخرون أنها "علاقة خاصة"، لأن المراجع لا يمثل المساهمين في إجراء تعاقدات، بل يقوم بمهمة مهنية محددة ومستقلة تخدم مصلحة الشركة ككل، وتتجاوز مصالح المساهمين الفردية. على الرغم من هذا الاختلاف في التكييف، يبقى المبدأ واحدًا: المسؤولية عن الضرر قائمة. سواء كانت وكالة أو علاقة خاصة، فإن المراجع ملزم بالتعويض عن أي ضرر يلحق بالمساهمين بسبب تقصيره.
2. أركان المسؤولية المدنية: كيف تُثبت؟
لكي تُثبت مسؤولية المراجع، يجب أن تتوفر الأركان الثلاثة التالية بشكل متكامل:
- الواجب القانوني (الالتزام): لا يُمكن محاسبة المراجع إلا إذا كان هناك التزام قانوني أو مهني يُلزمه بفعل معين أو الامتناع عنه. هذا الواجب ليس شيئًا عامًا، بل هو محدد بدقة في معايير المراجعة الدولية، وقوانين الشركات، وعقد المراجعة نفسه. على سبيل المثال، يقع عليه واجب فحص الأصول للتأكد من وجودها، وواجب الإفصاح عن المخاطر الجوهرية التي تهدد استمرارية الشركة.
- الإخلال بالواجب (الخطأ): هذا الركن هو صميم المسؤولية. يجب أن يُثبت أن المراجع قد أخل بواجبه، وأن هذا الإخلال يمثل "خطأ"، سواء كان متعمدًا أو نتيجة إهمال جسيم. لا يُحاسب المراجع على كل خطأ بسيط، بل على ما يُعتبر تقصيرًا في بذل "عناية الرجل المعتاد". الأدلة على هذا الإخلال يمكن أن تشمل: عدم فحص مستندات مهمة، تجاهل تضارب في المصالح، أو الفشل في تطبيق إجراءات المراجعة الأساسية.
- الضرر والعلاقة السببية: يجب أن يكون هناك ضرر مادي أو معنوي قد لحق بالمدعي (المساهمين). وهذا الضرر يجب أن يكون نتيجة مباشرة لخطأ المراجع. على سبيل المثال، إذا تسبب تقرير مراجعة غير دقيق في خسارة المساهمين لجزء من استثماراتهم، فإن هناك علاقة سببية مباشرة بين خطأ المراجع والضرر.
3. مسؤولية مراقب الحسابات تجاه الأطراف الثالثة:
تُعتبر هذه النقطة من أهم التطورات في فقه المسؤولية القانونية للمراجع. فالمراجع لم يعد مسؤولًا فقط عن عملائه (المساهمين)، بل أصبح مسؤولًا أيضًا عن الأطراف الثالثة الذين يعتمدون على تقاريره في اتخاذ قراراتهم المالية والاستثمارية.
- من هم الأطراف الثالثة؟ يشملون المستثمرين المحتملين الذين يعتمدون على القوائم المالية لتقييم الشركة، والبنوك التي تمنح القروض، ومصلحة الضرائب التي تستند إلى القوائم المالية لتقدير الضرائب، بالإضافة إلى الدائنين وسوق الأوراق المالية.
- أساس المسؤولية: تقوم مسؤولية المراجع تجاه هذه الأطراف على أساس أن تقاريره ليست مجرد وثيقة داخلية، بل هي وثيقة عامة تُنشر ويُعتمد عليها من قبل قطاعات واسعة. إذا تسبب خطأ المراجع في تضليل أحد هذه الأطراف وإلحاق ضرر به، يحق لهذا الطرف مقاضاة المراجع والمطالبة بالتعويض.
4. مسؤولية المراجع عن أفعال تابعيه:
لا تقتصر المسؤولية المدنية لمراقب الحسابات على أفعاله الشخصية فقط، بل تشمل أيضًا أفعال تابعيه (الموظفين والمساعدين) أثناء قيامهم بعملية المراجعة. فالمكتب المهني يُعتبر مسؤولًا عن أي إهمال أو تقصير يرتكبه المساعدون تحت إشرافه. هذا يعزز من أهمية الرقابة الداخلية والجودة المهنية في مكاتب المراجعة، ويضع عبئًا إضافيًا على المراجع في التأكد من كفاءة فريقه ودقته.
باختصار، تُشكل المسؤولية القانونية لمراقب الحسابات شبكة معقدة من الالتزامات تجاه المساهمين، والأطراف الخارجية، وحتى تابعيه. هذه المسؤولية لا تقوم إلا على أسس قانونية ثابتة، أبرزها وجود واجب قانوني، ووقوع خطأ، وحدوث ضرر ناتج عن هذا الخطأ.