التأثير التجاري والاقتصادي للهجرة العربية في أمريكا اللاتينية.. الرفع من القدرة الشرائية للسكان وتراكم الرأسمال والمساهمة في تحولات المشهد الاقتصادي البرازيلي

كان الهدف من الهجرة الحديثة الكسب المالي بالمقام الأول ولذلك نبغ المهاجرون الجدد العرب والمسلمون في الجانب التجاري واستطاعوا ترك بصمات واضحة في النمو التجاري والاقتصادي في الدول التي سكنوها وأثروا الحياة التجارية بالكثير من المباديء والأصول التى أصبحت متداولة فيما بعد.
وقد بدأ المهاجر المسلم حياته كبائع متجول ثم بعد ذلك افتتح محلا صغيرا ثم اتجه إلى التصنيع والإنتاج، ويعود تأسيس أول المحال التجارية العربية في أمريكا اللاتينية لعام 1887 م في مدينة "أركيبا" بدولة بيرو، خلال المرحلة نفسها كان العرب يمتلكون من 30-35 محلا تجاريا في بيونس أيرس بالأرجنتين، ويلاحظ ارتفاع هذا العدد لـ 3701 محلا تجاريا في نفس البلد، وقد برع المسلمون في تجارة النسيج والأقمشة ومازالت هذا المجال يستهويهم ويوجد الكثير من المسلمين الذين يمتلكون مصانع بارعة في هذا المجال، وهذا الأمر يندرج على كافة بلدان أمريكا اللاتينية.
وكان أهم بروز للصناعيين العرب في القارة المذكورة في البرازيل والتشيلي والأرجنتين. وقد وصلت نسبة ما تنتجه المؤسسات الصناعية ذات الرأسمال العربي في البرازيل قبيل الحرب العالمية الثانية ، 75% من الإنتاج الوطني لمادة الحريرن و 25% من الإنتاج الوطني لمادتي القطن والصوف، ووصلت نسبة ماتنتجه المؤسسات الصناعية العربية خلال المرحلة نفسها في التشيلي إلى 90% من الحرير والقطن والنيلون، أما في الأرجنتين فقد وصلت نسبة ماتنتجه المؤسسات الصناعية ذات الرأسمال العربي في منتصف ثلاثينات القرن العشرينن إلى 50% من مجموع النسيج المصنع في هذا البلد.
لقد ساهم وجود الأجانب خصوصا الأجانب، خصوصا في جنوب البلاد، في الرفع من القدرة الشرائية للسكان، وبالتالي في تراكم الرأسمال، وهنا تجدر الإشار إلى أن الجالية العربية، ومن خلال نشاطها التجاري، كان لها دور مهم في هذا التطور الذي عرفه المجتمع. ويساهم في الوقت الحاضر عدد من أفراد الجالية العربية الذين حققوا نوعا من الرقي السوسيو- اقتصادي، بشكل فعال في التحولات التي يعرفها المشهد الاقتصادي البرازيلي.
وكان للمنحدرين من أصول عربية حضور متميز في الحياة المهنية، خصوصا في مجالات الطب والهندسة والحقوق. نسجل هذا الحضور في الميدان الطبي منذ بداية القرن العشرين تقريبا، حيث أصبح لبعض الأطباء المنحدرين من أصول عربية شهرة دولية. وقد شيدت الجالية العربية أربعة مستشفيات في ولاية ساو باول، عي : المستشفى السوري اللبناني، ومستشفى القلب، وكلاهما امتدت شهرته إلى مختلف أنحاء البرازيل، ثم مستشفى 9 يوليو، وأخيرا مستشفى ابن سيناء الذي شيده المسلمون المنتمون إلى هذه الجالية ويشرفون عليه. ونسجل هذا الحضور كذلك في ميدان الهندسة التي برز فيها العديد من المنحدرين من أصول عربية، وبخاصة في حقلي الهندسة المعمارية الذي يتمتع فيه بعض المهندسين العرب بشعبية كبيرة، بفضل إقبالهم على تشييد المساكن الرخيصة الثمن،والهندسة الصناعية التي يشرفون عليها في عدد من البلدان، خصوصا الأفريقية والأمريكية. كما نسجل هذا الحضور في المجال القانوني، إذ برز المنحدرون من أصول عربية منذ مرحلة مبكرة، إلى جانب حقلي المحاماة والقضاء، في تخصصات مثل القانونين التجاري والمالي حيث عملوا كمستشارين لبعض كبار رجال الصناعة والتجارة من أبناء جلدتهم.
وكان للمنحدرين من أصول عربية حضور متميز في الحياة الثقافية إذ نسجل أسماء وازنة في الأدب والسينما والمسرح والتليفزيون والموسيقى والرسم وغيرها. ويوجد في البرازيل عدد من الشعراء والوائيين من أصول عربية، كانت جودة إبداعاتهم وراء ترجمتها إلى عدد من اللغات، وصدورها في مختلف البلدان الأوروبية والأمريكية. لكن الحضور العربي في الأدب البرازيلي لايقتصر على إسهامات هؤلاء، وإنما يتعداها إلى أعمال روائيين برازيليين عالميين، امثال جورجي أمادو، وغيما رايس اللذين تناولا في أعمالهما شخصية المهاجر العربي الذي لعب – بحسب الأعمال – دورا بارزا في التاريخ الاجتماعي للبرازيل.
ومن المظاهر الثقافية العربية التي نجح المهاجرون في طبع مجتمعاتهم المضيفة بها هناك الطبخ المشرقي الذي انتشر بشكل كبير في بلدان مثل البرازيل والأرجنتين والمكسيك، ثم هناك أسماء الأشخاص، وهذه ساهم في انتشارها من بين عوامل أخرى، علاقات الصداقة التي للعرب مع السكان الأصليين، الذين اطلقوا أسماء أصدقائهم العرب على أبنائه، وكذا بعض الأعمال الأدبية لكبار المبدعين الأمريكيين اللاتينيين، وقد أخبرنا في هذا السياق مواطن كولومبي، أن إطلاق اسم ناصر على ابنه كان بتأثير من بطل رواية قصة موت معلن للروائي الكولومبي غابرييل غارثيا ماركيز، وتشير السياسية الكولومبية من اصل عربي سليمة حاتم إلى أن درجة تجذر الأسماء العربية في المجتمع الكولومبي في الوقت الحاضر وصلت إلى حد أن العديد من الكولومبيين يطلقونها على أبنائهم من دون أن يعرفوا أنها عربية.
وكذلك أخذ المجتمع البرازيلي عن العرب مظاهر ثقافية محسوسة، من بينها الطبخ، حيث أصبح عدد من الوصفات العربية تشكل جزءا من المطبخ البرازيلي، نذكر من بينها "الكبة" و "الصفيحة" حتى أصبح ثقافة في جميع أنحاء البرازيل وقامت كثير من المطاعم بفتح سلسلة مطاعم تعتمد على هذه الأكلات.
إن مساهمة المسلمين والعرب الحضارية في دولة مثل البرازيل جعلت الحكومة البرازيلية تكرمهم وتكفل لهم الكثير من الحريات، فالدستور البرازيلي يكفل حرية ممارسة الشعائر الإسلامية، والدعوة إليها، ونشرها بكل الطرق السلمية، وتساعد الحكومة الفيدرالية، وحكومات الولايات وكذلك البلديات في فتح  الآفاق وإعطاء المساحات المناسبة لممارسة هذا الدور، وكذلك مساعدة المؤسسات الإسلامية التي تريد بناء مساجد أو مدارس أو مراكز ثقافية بمنحها أرضا مجانية لإقامة مشاريعها عليها، وتسهيل حصولها على التراخيص اللازمة، ومعافاتها أحيانا من الضرائب السنوية.
وتم صدور قرار جمهوري باعتبار يوم 25 مارس من كل عام يوما لتكريم الجالية العربية، وكذلك قرار من برلمان ولاية ” ساو باولو ” باعتبار يوم 12 مايو من كل عام يوما لتكريم الدين الإسلامي، وصدر قرار من برلمان ولاية ” ساو باولو ” باعتبار يوم 29 نوفمبر من كل عام يوما للتضامن مع الشعب الفلسطيني وحقه المغتصب، وصدور قرار من قبل السلطات الفيدرالية يقضي باستطاعة المرأة المسلمة البرازيلية أو المقيمة في البرازيل استخراج أوراقها الرسمية أوجواز سفرها بصورتها وهي ترتدي الحجاب، وفقا للدستور البرازيلي.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال