عصر محمد علي في مصر:
العصر الذهبي لمحمد علي باشا في مصر (1805-1848) ليس مجرد حقبة تاريخية، بل هو قصة تحوّل شاملة قادتها رؤية رجل استطاع أن يبني دولة حديثة من العدم، ويضع مصر على خريطة القوى الإقليمية. توسعنا في النقاط الأساسية التي ذكرناها سابقًا يظهر عمق وعظمة هذه الفترة.بناء الجيش الحديث: حجر الزاوية في الدولة الجديدة
كان محمد علي يرى أن الدولة القوية لا تُبنى إلا بجيش قوي. لم يكن يعتمد على المماليك أو المرتزقة، بل اعتمد على أبناء مصر.
- التجنيد الإجباري: أصدر قانونًا بالتجنيد الإجباري للشباب من سن 15-20 عامًا، وهو ما سمح له بتكوين جيش وطني ضخم.
- التدريب العصري: استقدم خبراء عسكريين فرنسيين، وعلى رأسهم الكولونيل سيف (سليمان باشا الفرنساوي)، لتدريب الجنود والضباط على أحدث فنون القتال الأوروبية.
- التصنيع الحربي: لم يكتفِ بالجيش، بل أنشأ ترسانة الأسلحة في القلعة لإنتاج المدافع والبنادق، وبنى ترسانة بحرية ضخمة في الإسكندرية لصناعة السفن الحربية، مما جعل مصر قوة بحرية لا يستهان بها في البحر المتوسط.
- المدارس الحربية: أنشأ مدارس متخصصة مثل مدرسة المهندسخانة الحربية، ومدرسة المشاة في أسوان، لتخريج ضباط أكفاء.
هذا الجيش المكون من 200,000 جندي مكّن محمد علي من خوض حروب ناجحة، مثل حرب الحجاز لطرد الوهابيين، وحروب السودان التي أضافت مساحة شاسعة لأملاك مصر، وحروب الشام التي هددت الدولة العثمانية نفسها.
الاحتكار: أساس النهضة الاقتصادية
كانت سياسة الاحتكار هي العصب الأساسي لإصلاحات محمد علي الاقتصادية، فقد سيطرت الدولة على كل الموارد والمنتجات لتمويل مشروعات التحديث.
- في الزراعة: ألغى نظام الالتزام الذي كان يرهق الفلاحين، ووزع الأراضي على الفلاحين لكنه احتكر شراء المحاصيل منهم بسعر تحدده الدولة، ثم يبيعها في الأسواق العالمية بسعر أعلى. شجع على زراعة القطن طويل التيلة الذي أصبح أهم صادرات مصر ومصدر دخلها الرئيسي.
- في الصناعة: أدرك أن الصناعة أساس الاستقلال الاقتصادي. فأنشأ مصانع حكومية ضخمة للغزل والنسيج في القلعة وشبرا، ومصانع لسك العملة، والسكر، والأسلحة. اعتمد في تشغيلها على الخبرات الأجنبية في البداية، ثم على المصريين بعد تدريبهم.
- في التجارة: احتكر التجارة الخارجية تمامًا، وأنشأ وكالات تجارية حكومية لشراء وبيع المنتجات المصرية، مما ضمن له أقصى ربح ممكن.
نهضة التعليم والثقافة: نقلة حضارية
أدرك محمد علي أن جيشًا قويًا واقتصادًا مزدهرًا لا يكتملان دون تعليم حديث. فكانت هذه الإصلاحات نقلة حضارية لمصر.
- البعثات العلمية: أرسل مئات الطلاب المصريين إلى أوروبا، خاصة فرنسا وإيطاليا، لدراسة الطب والهندسة والقانون والفنون الحربية، ليعودوا قادة التحديث في بلادهم.
- المدارس المتخصصة: أنشأ مدارس عليا متخصصة مثل مدرسة الطب في أبي زعبل التي تعد نواة للجامعة المصرية الحديثة، ومدرسة المهندسخانة، ومدرسة الصيدلة، ومدرسة الطب البيطري.
- مدرسة الألسن: أنشأها رفاعة الطهطاوي، أحد قادة البعثات، بهدف ترجمة العلوم والفنون الأوروبية إلى اللغة العربية، وهو ما أدى إلى ظهور حركة ترجمة نشطة.
- المطبعة الأميرية: أنشأها في بولاق، وكانت أول مطبعة حكومية في مصر، فطبعت الكتب المدرسية والجرائد الرسمية مثل الوقائع المصرية، التي كانت نافذة المصريين على أخبار الدولة والعالم.
نهاية عصر محمد علي: التحديات الخارجية
لم تسر الأمور دائمًا بسلاسة. فقد أثارت قوة محمد علي المتزايدة قلق القوى الأوروبية، خاصة بريطانيا، التي كانت تخشى تهديد نفوذها التجاري في المنطقة.
- معاهدة لندن 1840: بعد تهديد جيش محمد علي للسلطان العثماني، تحالفت القوى الأوروبية ضده وأجبرته على توقيع معاهدة لندن، التي نصت على تخلي محمد علي عن كل الأراضي التي فتحها (الشام والحجاز وكريت) وأن يقتصر حكمه على مصر والسودان فقط، مع تقليص حجم جيشه.
- انهيار الاحتكار: أجبرته المعاهدة أيضًا على إنهاء سياسة الاحتكار وفتح السوق المصرية أمام المنتجات الأوروبية، وهو ما أدى إلى ضرب الصناعات المصرية الناشئة وتدهور الاقتصاد.
على الرغم من هذه الانتكاسات، فإن الإرث الذي تركه محمد علي كان عميقًا. فقد وضع الأسس لدولة مصرية حديثة، وكان عمله نقطة انطلاق لنهضة لم تكتمل، ولكنه أبقى جذورها حية.