جدلية العلاقة بين النمو السكاني السريع والنمو الاقتصادي: مراجعة للحجج المتشائمة (البطالة وتآكل رأس المال) والمتفائلة (القوة العاملة واستغلال الموارد)

أساسيات النمو السكاني وعلاقته بالتنمية الاقتصادية:

ينبني النمو السكاني على محصلة ثلاثة عناصر ديموغرافية أساسية تتفاعل لتحدد حجم السكان ومعدل تغييره:

  • المواليد: معدلات الولادة الخام.
  • الوفيات: معدلات الوفيات الخام.
  • الهجرة: صافي الهجرة، وهو الفرق بين الوافدين (المهاجرين) والمغادرين (النازحين).


مصادر التغير السكاني:

يحدث التغير في حجم السكان عادة نتيجة نوعين من الزيادة:

  • الزيادة الطبيعية (Natural Increase): وتنتج عن تجاوز عدد المواليد لعدد الوفيات في مجتمع معين خلال فترة زمنية محددة. وتعد هي المحرك الرئيسي للنمو السكاني في معظم الدول.
  • الزيادة الصناعية (Social/Migration Increase): وتنتج عن صافي الهجرة، أي انتقال الأفراد من مكان لآخر (سواء بالدخول أو الخروج من المنطقة محل الدراسة).

التطور التاريخي وموقف المختصين من النمو السكاني:

شهد النمو السكاني تسارعًا هائلاً في العصر الحديث، فبعد أن كان ينمو ببطء شديد في الحضارات والعصور القديمة، أصبح عدد سكان العالم اليوم يتجاوز الستة مليارات نسمة، مع نسب نمو عالية، خاصة في الدول النامية.

هذا النمو السكاني المتسارع أثار جدلاً واسعاً بين المختصين في العلاقة بينه وبين النمو الاقتصادي والتنمية. وقد انقسمت الآراء إلى ثلاثة اتجاهات رئيسية:


الاتجاه المتشائم: النمو السكاني عائق أمام التنمية

يعتقد هذا الفريق أن النمو السكاني السريع يعيق عملية التنمية الاقتصادية ويحول دون تطوير مستوى معيشة السكان وتحسين أوضاعهم. وتتلخص حججهم فيما يلي:

  • عرقلة تراكم رأس المال وتناقص نصيب الفرد: يرى المتشائمون أن النمو السكاني المتزايد يضع عقبات أمام تراكم رأس المال (الآلات، المعدات، التجهيزات)، ويقلل من نصيب الفرد من رأس المال. فمع ثبات كمية رأس المال، فإن الزيادة المستمرة في القوى العاملة تعني أن كل عامل جديد يحصل على كمية أقل من رأس المال اللازم لزيادة الإنتاج.

النتيجة: يؤدي ذلك إلى تراجع في إنتاجية العامل ومن ثم تباطؤ في النمو الاقتصادي الكلي.
  • تفاقم مشكلة البطالة: يؤدي النمو السكاني إلى تنامي عدد الباحثين عن عمل بمعدل يفوق قدرة الاقتصاد على خلق وظائف جديدة، مما يزيد من مشكلة البطالة في المجتمع ويصبح عبئًا بدلاً من أن يكون دافعاً لزيادة الناتج.
  • تأثير سلبي على المدخرات والتمويل: يرفع النمو السكاني من معدل إعالة السكان (نسبة الذين يستهلكون ولا ينتجون، كالأطفال وكبار السن)، مما يزيد من حجم الاستهلاك الكلي.
النتيجة: يؤدي هذا الارتفاع في الاستهلاك إلى تقليل حجم المدخرات وموارد التمويل اللازمة للاستثمار، وهو ما يعد ضروريًا لدعم النمو الاقتصادي وزيادة الناتج والدخل.

الاتجاه المتفائل: النمو السكاني دافع للتنمية

يرى الفريق المقابل أن النمو السكاني يمكن أن يكون قوة دافعة للتنمية، وذلك في إطار توافر ظروف اقتصادية وسياسية ملائمة. وتتمحور وجهة نظرهم حول الآتي:

  • زيادة القوى البشرية واستغلال الموارد: يوفر النمو السكاني إمكانية زيادة حجم القوى البشرية، ومن ثم زيادة القوى العاملة المتاحة.
  • فرصة لزيادة الإنتاج والدخل: تسمح هذه الزيادة في القوى العاملة بفرص أوسع لاستغلال موارد البلاد وثرواتها، مما يؤدي إلى رفع مستوى الإنتاج والدخل، ويسرّع من عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية. بمعنى آخر، ينظرون إلى السكان كـ "رأس مال بشري" يمكن استثماره.

الاتجاه المحايد: الاستقلال النسبي للعلاقة

تبنى الطرف الثالث موقفاً أكثر حيادية، حيث اعتبر أن النمو السكاني مستقل عن النمو الاقتصادي ويتحدد بعوامل خارجه (كالعوامل الاجتماعية والثقافية والصحية).

  • التبعات الخطيرة: لقد كان للآخذين بهذا الرأي من متخذي القرار تبعات سلبية خطيرة، أبرزها التقليل من الأثر المتبادل والترابط الوثيق بين النمو السكاني والنمو الاقتصادي.
  • الأولوية المفقودة: ساهم هذا الاعتقاد في عدم إعطاء القضايا السكانية الأولوية التي تستحقها في سياق إنشاء السياسات المتكاملة في العديد من الدول، مما أدى إلى فصل التخطيط السكاني عن التخطيط الاقتصادي.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال