جغرافية كردفان الكبرى: التنوع البيئي والعمق التاريخي
تُعتبر كردفان الكبرى بحق بوتقة تنصهر فيها الخصائص الجغرافية والبيئية المتنوعة للسودان، مما منحها أهمية استراتيجية واقتصادية وتاريخية فائقة.
الموقع الاستراتيجي والامتداد الفلكي:
يحتل الإقليم موقعًا وسطيًا حاسمًا في قلب السودان، حيث يمتد فلكيًا بين خطي عرض 10∘ و 16∘ شمالاً تقريبًا، وبين خطي طول 27∘ و 32∘ شرقًا. هذا الامتداد الشمالي-الجنوبي يفسر التدرج المناخي والبيئي الدراماتيكي:
- الحدود الشرقية: يشكل نهر النيل الأبيض حاجزًا طبيعيًا ومصدرًا للمياه لبعض الأجزاء الشرقية من كردفان.
- الحدود الغربية: التماس المباشر مع إقليم دارفور جعل الإقليم ممرًا حيويًا للهجرات والتجارة عبر الصحراء إلى تشاد ودول غرب إفريقيا (طريق الحج القديم).
- العمق الشمالي: يندمج الإقليم تدريجياً مع حزام الصحراء الكبرى، معززاً بذلك دور كردفان كمنطقة "حافة" تتصارع فيها البيئة الصحراوية مع بيئة السافانا.
التضاريس وأنماط التربة الرئيسية:
بالرغم من سيادة السهول، فإن تضاريس كردفان يمكن تحليلها إلى أربعة أنماط أرضية متميزة تحدد الأنشطة البشرية:
1. سهول القوز (التربة الرملية):
تمثل هذه السهول السمة الأبرز في شمال كردفان ومعظم غربها.
- التكوين: هي عبارة عن كثبان رملية مستقرة تشكلت بفعل الرياح في عصور جيولوجية سابقة.
- الخصائص: تتميز هذه التربة بكونها مسامية للغاية، مما يسمح بتسرب مياه الأمطار بسرعة إلى باطن الأرض، حيث تتجمع في خزانات جوفية ضحلة تُعرف محليًا باسم "الخور" أو تُستخرج عبر الآبار التقليدية و"الحفائر" (المستودعات الأرضية للمياه).
- النشاط البشري: هذه التربة هي الموئل المثالي لزراعة الصمغ العربي (من أشجار الهشاب)، الذي يتطلب تربة جيدة الصرف ومناخاً شبه جاف. كما تزرع فيها محاصيل مقاومة للجفاف مثل الدخن.
2. المناطق الطينية الجنوبية (التربة الطينية):
تتركز هذه الأراضي في جنوب الإقليم (جنوب كردفان) وغربه.
- التكوين: ترسبات طينية غنية، غالبًا ما تكون سوداء اللون ("الطين الأسود")، تنتجت عن فيضانات الأنهار الموسمية وتفتت الصخور.
- الخصائص: تتميز بكونها غير منفذة للمياه، مما يؤدي إلى تشكل مستنقعات وبحيرات موسمية ("الرهد") خلال موسم الأمطار، وتتحول إلى تربة صلبة ومتشققة في موسم الجفاف.
- النشاط البشري: هي أراضي الرعي الرئيسية لأبقار القبائل الرحل، وتُستخدم لزراعة المحاصيل التي تتطلب رطوبة عالية مثل الذرة الرفيعة والفول السوداني والسمسم.
3. سلسلة جبال النوبة:
هي ظاهرة جيولوجية استثنائية تقطع السهول الجنوبية لكردفان.
- التكوين: تتكون من كتل جرانيتية وبركانية قديمة معزولة، مما يخلق جيوبًا بيئية مختلفة عن السهل المحيط.
- المناخ الدقيق: تستقبل الجبال كميات أمطار أعلى من السهول، وتتميز بانخفاض درجة الحرارة في القمم. هذه المرتفعات تُعتبر "أبراج مياه" طبيعية وتوفر الحماية.
- النشاط البشري: يسكنها النوبة، ويمارسون الزراعة الجبلية المدروسة (المدرجات)، حيث يزرعون محاصيلهم على سفوح التلال والاستفادة من المياه المتدفقة.
4. حفر الوديان والأخوار:
هي شبكات من مجاري الأنهار الموسمية الجافة (الأخوار) التي تمتلئ بالمياه خلال الخريف.
- الأهمية: تشكل شرايين الحياة، وتوفر المياه للشرب والري بعد انتهاء موسم الأمطار، وتتميز تربتها على جانبي الخور بخصوبة عالية.
الخصائص المناخية والتدرج البيئي:
يخضع مناخ كردفان لتأثير حركة حزام الأمطار المداري (ITCZ)، الذي يتنقل شمالاً صيفًا وجنوبًا شتاءً. هذا يحدد فترة ومعدل تساقط الأمطار:
- موسم الجفاف (الشتاء والربيع): يمتد من نوفمبر حتى مايو. تتسم بالحرارة الشديدة والعواصف الترابية ("الهبوب")، ويصبح البحث عن الماء والعلف هو الشغل الشاغل للرعاة والمزارعين.
- موسم الأمطار (الخريف): يمتد من يونيو إلى أكتوبر. يكون قصيراً وشديداً في الشمال (قد لا يتجاوز 60 يومًا)، ولكنه أكثر طولاً وغزارة في الجنوب. يتراوح متوسط الأمطار السنوي من أقل من 150 ملم في الشمال إلى أكثر من 600 ملم في أقصى الجنوب.
التدرج النباتي:
يعكس الغطاء النباتي التغير في معدل الأمطار:
- منطقة السافانا القاحلة/شبه الصحراوية (شمال كردفان): يسودها الشوكيات والأعشاب القصيرة، وأشجار الهشاب (منتج الصمغ) والأكاسيا.
- منطقة السافانا الغنية/المتوسطة (جنوب وغرب كردفان): تتميز بنمو أشجار التبلدي الضخمة (المستخدمة كخزانات للمياه)، وغابات كثيفة من السنط والطلح، مما يوفر علفاً ممتازاً للمواشي.
الجغرافيا البشرية وأنماط المعيشة:
تظهر العلاقة العميقة بين الجغرافيا وأنماط الاستيطان والمعيشة في كردفان:
1. الرعي الرحل (الترحال):
تعتمد القبائل العربية الرعوية (مثل الكبابيش والهمر والبقارة) على الترحال الموسمي كآلية للتكيف مع شح المياه والعلف:
- الشتاء (الجفاف): يتجه الرعاة جنوباً إلى مناطق "المراعي الشتوية" الغنية بالمياه والعلف في جنوب وغرب كردفان وجنوب السودان.
- الخريف (الأمطار): يعودون شمالاً إلى "المراعي الصيفية" للاستفادة من الأعشاب النامية مؤقتًا في الشمال.
2. الزراعة المستقرة:
تتركز الزراعة في المناطق ذات الأمطار الوفيرة أو حول مصادر المياه الدائمة:
- الزراعة المطرية: هي السائدة، وتعتمد على محاصيل موسمية مثل الدخن والذرة والفول السوداني.
- الزراعة البعلية: تنتشر في السهول الطينية الخصبة جنوباً، وتعتمد على الأمطار فقط.
- زراعة الجبال: تتميز بها مجتمعات جبال النوبة، وهي زراعة متكاملة مع الرعي في مناطق مرتفعة.
3. المدن والمراكز الاقتصادية:
تطورت المدن كنقاط التقاء تجارية لخدمة مناطق الإنتاج الزراعي والحيواني:
- الأبيض: المركز التجاري واللوجستي، ومحور النقل الرئيسي بين غرب وشرق السودان، وبوابة الصمغ العربي.
- الفولة ونيالا: مراكز رئيسية في غرب كردفان تعتمد على الثروة النفطية والرعوية.
إن جغرافية كردفان الكبرى هي قصة توازن دقيق بين الإنسان والبيئة، حيث فرضت التضاريس والمناخ أنماط حياة فريدة من الحركة والاعتماد المتبادل بين السهول الجافة والجبال الخصبة.