الأبعاد المزدوجة للتنافسية الوطنية: تقييم نقدي لتعريف المجلس الأمريكي للتنافسية كقوة إنتاجية عالمية، ومقارنته بتعريف المجلس الأوروبي الذي يركز على التشغيل المستدام والرفاهية الاجتماعية

التنافسية الوطنية: مقاربة موسعة ومقارنة بين الرؤيتين الأمريكية والأوروبية

يُعد مفهوم التنافسية الوطنية أحد الركائز الأساسية في الفكر الاقتصادي الحديث، حيث يمثل قدرة الدولة على الازدهار والنمو المستدام في ظل العولمة. وقد قدمت المؤسسات الاقتصادية الكبرى تعريفات تفصيلية لهذا المفهوم، تبرز أبعاداً مختلفة ولكنهما يشتركان في الهدف النهائي وهو تحسين رفاهية المواطنين.


أولاً: تعريف المجلس الأمريكي للسياسة التنافسية (Council on Competitiveness)

قدم المجلس الأمريكي للسياسة التنافسية تعريفاً يركز بشكل أساسي على الجانب الاقتصادي والإنتاجي المرتبط بالأسواق الدولية. يُعرف المجلس التنافسية على أنها: "قدرة الدولة على إنتاج سلع وخدمات تنافس في الأسواق العالمية وفي نفس الوقت تحقق مستويات معيشة مطردة في الأجل الطويل."

التوسع والتفصيل في الرؤية الأمريكية:

  • التركيز على الكفاءة الإنتاجية والتصدير: النقطة المحورية في هذا التعريف هي "إنتاج سلع وخدمات تنافس في الأسواق العالمية". هذا يعني أن الدولة يجب أن تكون قادرة على تطوير صناعات وخدمات ذات جودة عالية وتكلفة مناسبة تجعلها مرغوبة ومنافسة للمنتجات الأجنبية. التنافسية هنا تُقاس جزئياً بمدى نجاح الصادرات وقدرة الشركات الوطنية على الحفاظ على حصتها في السوق العالمية.
  • النمو المستدام لمستوى المعيشة: الهدف الأسمى من التنافسية، وفقاً لهذا التعريف، ليس مجرد النجاح التجاري الآني، بل تحقيق "مستويات معيشة مطردة في الأجل الطويل". هذا البعد الزمني يشدد على أهمية الاستدامة، مما يتطلب استثماراً مستمراً في البنية التحتية، والتعليم، والابتكار (R&D) لضمان بقاء الدولة في طليعة التقدم التكنولوجي والاقتصادي للأجيال القادمة. التنافسية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بزيادة الإنتاجية على المدى الطويل.

ثانياً: تعريف المجلس الأوربي ببرشلونة (اجتماع 2000)

يتبنى المجلس الأوربي، كما ورد في اجتماعه في برشلونة عام 2000، مقاربة أوسع وأكثر شمولية للتنافسية، تتجاوز الجوانب الاقتصادية البحتة لتشمل الأبعاد الاجتماعية والعمالية. عُرِفت تنافسية الأمة بأنها: "القدرة على التحسين الدائم لمستوى المعيشة لمواطنيها وتوفير مستوى تشغيل عالي وتماسك اجتماعي، وهي تغطي مجالاً واسعاً وتخص كل السياسة الاقتصادية."

التوسع والتفصيل في الرؤية الأوروبية:

  • التحسين الدائم لمستوى المعيشة (الهدف الأساسي): مثل الرؤية الأمريكية، يضع التعريف الأوروبي تحسين مستويات المعيشة كهدف محوري، مع التأكيد على صفة "الدائم" لضمان الاستمرارية والارتقاء المستمر.
  • بعد التشغيل العالي (البعد الاجتماعي والاقتصادي): يضيف التعريف الأوروبي عنصراً هاماً وهو "توفير مستوى تشغيل عالي". هذا يشير إلى أن التنافسية ليست مجرد مسألة كفاءة إنتاجية أو ربحية، بل يجب أن تُترجم إلى خلق فرص عمل كافية وبجودة عالية. الاقتصاد التنافسي هو الذي يستوعب القوى العاملة ويقلل من البطالة، مما يعزز الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي.
  • عنصر التماسك الاجتماعي (البعد القيمي والمؤسساتي): هذا هو البعد الأكثر تميزاً في التعريف الأوروبي. إن "التماسك الاجتماعي" يعني أن النجاح الاقتصادي يجب أن يكون شاملاً وعادلاً، يقلل من الفوارق الاجتماعية ويحافظ على شبكة أمان قوية. هذا يربط التنافسية بجودة المؤسسات، والعدالة التوزيعية، وجودة الحياة بشكل عام، وليس فقط القدرة الشرائية.
  • الشمولية في مجال السياسة الاقتصادية: ينص التعريف صراحة على أن التنافسية "تغطي مجال واسع وتخص كل السياسة الاقتصادية". هذا يعني أنها ليست مقتصرة على سياسات التجارة والصناعة فقط، بل تشمل سياسات المالية العامة، والتعليم والتدريب، والبيئة، واللوائح التنظيمية، ونظم الابتكار. هي منظومة متكاملة من السياسات التي يجب أن تعمل بالتناغم لتعزيز القدرة التنافسية للدولة.


خلاصة المقارنة:

يمكن القول إن التعريف الأمريكي يركز على القدرة التنافسية للسوق (Market-Based Competitiveness) كآلية لتحقيق مستويات معيشة أفضل. في المقابل، يتبنى التعريف الأوروبي منظوراً أكثر شمولية وتركيزاً اجتماعياً (Socially-Inclusive Competitiveness)، حيث يرى أن النجاح الاقتصادي يجب أن يتوازن مع ضمان التشغيل الكامل والتماسك الاجتماعي كركائز أساسية للتنافسية الوطنية المستدامة.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال