"المعيار الفني" في فقه التأمين: دراسة نقدية لمدى قوة نظرية المشروع المنظم كأداة للتمييز بين العقود التأمينية وعمليات إدارة المخاطر المالية المماثلة

نظرية التأمين كمشروع منظم فعليًا:

تُركّز هذه النظرية بشكل أساسي على فكرة أن عقد التأمين يختلف جوهريًا عن العقود التقليدية الأخرى، وأن هذا الاختلاف الجوهري ينبع من ضرورته للارتباط بـمشروع منظم تنظيماً دقيقًا وفعالًا. لا يُنظر إلى التأمين على أنه مجرد اتفاق تبادلي بسيط بين طرفين، بل كجزء من منظومة أكبر وأكثر تعقيدًا.


1. الجوهر الفني لعملية التأمين:

يرى أنصار هذه النظرية أن عملية التأمين تتطلب تنظيمًا خاصًا نظرًا لطبيعتها التي تنطوي على عملية فنية متكاملة لا يمكن تحقيقها في إطار عقد فردي معزول. تتجسد هذه العملية الفنية في ثلاثة أركان أساسية:

  • تجميع المخاطر (Pool of Risks): يتطلب التأمين جمع أكبر عدد ممكن من الأفراد المعرضين لنفس النوع من الخطر. هذا التجميع يسمح لشركة التأمين بتطبيق قانون الأعداد الكبيرة، وهو الأساس الإحصائي الذي يمكنها من التنبؤ بشكل موثوق به نسبيًا بمتوسط الخسائر المتوقعة ضمن هذه المجموعة الكبيرة.
  • إجراء المقاصة (Compensation/Set-off): بعد تجميع المخاطر، يتم إجراء مقاصة بين الأقساط التي يدفعها جميع المشتركين والمبالغ التي تُدفع كتعويضات للمتضررين الفعليين. الهدف من المشروع المنظم هو أن تُغطي أقساط المجموعة مجتمعة التكاليف الإجمالية للتعويضات والنفقات التشغيلية، مما يضمن استدامة النظام ككل.
  • تحديد القسط العادل (Premium Determination): يتولى المشروع المنظم فنيًا مهمة تحديد القسط الذي يجب على كل مؤمَّن دفعه. يتم هذا التحديد بناءً على حسابات احتمالية وإحصائية دقيقة تأخذ في الاعتبار درجة الخطر ونسبة تكرار وقوعه، لضمان أن يكون القسط كافيًا لتغطية التعويضات المحتملة وتحقيق هامش ربح للمؤسسة.


2. متطلبات الإبرام والأساس الفني:

بناءً على هذا التصور، يُصبح الإبرام الصحيح والفعّال لعقد التأمين مرهونًا بوجود هذا التنظيم المسبق. بمعنى آخر، لا يمكن أن يوجد عقد تأمين بمعناه الحقيقي دون أن يكون صادرًا عن مشروع منظّم فنيًا يمارس هذه العمليات الثلاثة. يُعتبر هذا التنظيم المؤسسي هو الذي يوفّر الأساس الفني والتقني اللازم لجعل التأمين ممكنًا ومستدامًا ماليًا.


3. المعيار الفني والنقد الموجه للنظرية:

من أهم ما أنتجته هذه النظرية هو إدخال المعيار الفني كعنصر حاسم لتمييز عقد التأمين عن غيره من العقود الأخرى. فوجود عملية تجميع مخاطر ومقاصة وحسابات قسط يُعتبر هو السمة المميّزة للتأمين.

ومع ذلك، واجهت هذه النظرية نقدًا جوهريًا قوامه أن هذا المعيار الفني، على أهميته، ليس كافيًا بحد ذاته ليكون معيارًا حصريًا للتأمين.

  • العمومية وعدم الحصرية: يرى النقاد أن التنظيم الفني للمشروع -وخاصةً عمليات التجميع والمقاصة- لا يقتصر على مجال التأمين فقط.
  • وجود عمليات المضاربة المنظمة: توجد العديد من العمليات المالية وعمليات المضاربة التي تُدار بواسطة مشروعات منظّمة فنيًا، وتستخدم أساليب إحصائية معقدة وتجميعًا للأموال أو الأصول، ولكنها في جوهرها لا تُصنَّف قانونيًا أو اقتصاديًا كـ"تأمين".

لذلك، وعلى الرغم من أن النظرية قدمت إطارًا ممتازًا لفهم الآلية التشغيلية والضرورة التقنية لعمل شركات التأمين، إلا أنها أخفقت في تقديم معيار حاسم وشامل يمكنه تمييز عقد التأمين بشكل قاطع عن جميع الأنشطة المالية الأخرى التي قد تشترك معه في بعض جوانب التنظيم الفني.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال