فلسطين في السجلات العثمانية: أثر التقسيمات الإدارية وتطور متصرفية القدس على التوزيع السكاني والجغرافي

السيرة السكانية والإدارية لفلسطين في العصر العثماني (1517-1917):

تمثل الأربعة قرون التي قضتها فلسطين تحت حكم الدولة العثمانية مرحلة من الاستقرار النسبي الذي تخلله تحولات إدارية كبرى، أثرت بشكل مباشر على طرق إحصاء السكان وفهم تركيبتهم الاجتماعية والجغرافية.


الإطار التاريخي والتبعية الإدارية:

بدأ الوجود العثماني في فلسطين فعلياً عقب معركة مرج دابق عام 1516 ودخول السلطان سليم الأول للقدس عام 1517. طوال هذه الفترة، لم تكن "فلسطين" تُعامل كوحدة سياسية أو إدارية مستقلة بحدودها الحالية، بل قُسمت إلى سناجق (مقاطعات) تتبع ولايات كبرى.

في أغلب الفترات، كان شمال فلسطين يتبع ولاية بيروت، بينما تتبع المناطق الأخرى ولاية دمشق. هذا التشتت الإداري جعل من الصعب الحصول على سجلات سكانية موحدة وشاملة للبلاد ككتلة واحدة في بدايات الحكم، إذ كانت الدفاتر العثمانية (دفاتر الطابو) تُسجل السكان بناءً على الانتماء للولاية وليس للهوية الجغرافية الفلسطينية.


متصرفية القدس الشريف: النواة الجغرافية:

في عام 1874، اتخذت الدولة العثمانية خطوة إدارية هامة بجعل "سنجق القدس" متصرفية مستقلة مرتبطة مباشرة بالعاصمة إسطنبول (الباب العالي)، نظراً لمكانة المدينة الدينية والحساسية الدولية المتزايدة تجاهها.

  • المساحة والنفوذ: غطت هذه المتصرفية مساحة شاسعة بلغت حوالي 22 ألف كيلومتر مربع، وهو ما يمثل نحو 81% من مساحة فلسطين التاريخية.
  • التوسع النهائي: مع اقتراب نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ضُمت المناطق الشمالية والجنوبية المتبقية إدارياً لتكتمل الملامح الجغرافية لما يُعرف اليوم بفلسطين، وبلغ التقدير الأولي للسكان في تلك المرحلة حوالي 466 ألف نسمة.

النسيج الاجتماعي: سيادة النمط الريفي:

كان المجتمع الفلسطيني خلال العهد العثماني مجتمعاً فلاحياً بامتياز، حيث شكل سكان القرى العمود الفقري للديموغرافيا والاقتصاد.

  • شبكة القرى: بحلول عام 1883، وثقت المسوحات وجود حوالي 762 قرية مأهولة. كانت هذه القرى تمثل وحدات إنتاجية واجتماعية مستقلة تقريباً، يعتمد سكانها على الزراعة البعلية وتربية الماشية.
  • المدن الحواضر: في المقابل، كانت المدن مثل القدس، يافا، غزة، ونابلس تعمل كرافعات تجارية وإدارية، إلا أن ثقلها السكاني ظل ثانوياً مقارنة بالكتلة الريفية الضخمة حتى أواخر القرن التاسع عشر.

تحولات القرن العشرين وتعداد عام 1914:

شهد عام 1914 منعطفاً إحصائياً بإجراء أول تعداد سكاني يعتمد على آليات حديثة نسبياً، وإن ظل يحمل طابعاً تقديرياً في بعض المناطق النائية.

  • الرقم الإجمالي: كشف التعداد عن وصول عدد السكان إلى 689,275 نسمة، مما يعني حدوث طفرة سكانية كبيرة في العقود الأخيرة من الحكم العثماني.
  • التركيبة الطائفية: سجل التعداد وجود حوالي 8% من السكان من اليهود، بينما كانت الأغلبية الساحقة (نحو 92%) من العرب المسلمين والمسيحيين الذين شكلوا النسيج الأصيل للبلاد.

مسببات الانفجار السكاني والنمو المتسارع:

لم يكن ارتفاع عدد السكان إلى قرابة 700 ألف نسمة قبيل الحرب العالمية الأولى صدفة، بل كان نتيجة تضافر ثلاثة عوامل ديناميكية:

  1. النمو الطبيعي الداخلي: أدى تحسن الخدمات الصحية المحدود في المدن الكبرى، واستقرار الأوضاع الأمنية في الأرياف بعد القضاء على الصراعات المحلية (مثل صراعات القيس واليمن)، إلى انخفاض معدلات الوفيات واستمرار ارتفاع معدلات المواليد بين الفلسطينيين.
  2. تدفق الهجرات الصهيونية: بدأ صافي الهجرة يميل لصالح الزيادة نتيجة الموجات الأولى والثانية من المهاجرين اليهود القادمين من روسيا وأوروبا الشرقية، والذين بدؤوا في تأسيس المستعمرات الزراعية الأولى.
  3. الاستيطان المسيحي والأوروبي: لم تقتصر الهجرة على اليهود، بل شهدت فلسطين قدوم جاليات مسيحية منظمة، وأبرزها "جمعية الهيكل" الألمانية (التمبلرز) التي أسست أحياءً متطورة في حيفا والقدس ويافا، وجلبت معها تقنيات زراعية وصناعية حديثة ساهمت في جذب الأيدي العاملة وزيادة النشاط السكاني.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال