الإعانات المالية البريطانية لمملكة الحجاز.. تحديد مكماهون للحسين مبلغا خلال مراسلاتهما قبيل الثورة كتعويض للاحتلال البريطاني المؤقت لمدينة البصرة

بلغ المجموع الكلي لمدفوعات بريطانيا للملك حسين مبلغ 11.000.000 جنيه للفترة الواقعة بين 1916ـ 1920 كما سيتضح، تضمنت الذهب والروبية على السواء، علما ان نسبة ما تضمنته هذه المدفوعات من الذهب بلغ 10% منها.

أما مقدار ما كان يتسلمه الحسين من هذه المدفوعات شهريا فتختلف بين سنة واخرى، اذ كان يتقاضى 125.000 جنيه شهريا ابتداء من آب 1916 حتى آذار 1917، ثم ارتفع المبلغ المذكور الى (145.000) جنيه شهريا، والى (200.000) جنيه اعتبارا من نيسان 1917، وذلك استجابة لطلب الحسين الذي تقدم به بهذا الشأن في آذار من نفس السنة، والذي اضاف اليه مطالبته برفع المبلغ الاخير الى (225.000) شهريا، لمدة الشهور الخمسة التي تعقب فتح المدينة المنورة.

ومع مواقفة الحكومة البريطانية على هذه المطالب لكنها اشارت الى اعتبار هذه الزيادة آخر ما يمكن المواقفة عليه من المدفوعات.

لقد كان بديهيا ان تستمر بريطانية في مواصلة اعاناتها المالية طيلة مدة الحرب بحكم المصالح المعروفة، إلا أنها ـ ما ان بدت تباشير نهاية الحرب ـ اخذت تعيد النظر في سياستها المالية تجاه الحسين، ومن هنا يأتي اجتماع (ولسن) بالاخير في 24 تشرين الثاني 1918، للتشاور بوضع الاعانات المالية، وطلبه تقريرا مفصلا عن متطلبات حكومة الحجاز لفترة ما بعد الحرب بما في ذلك لائحة خاصة بالواردات والصادرات في ظل الادارات المختلفة وردا على ذلك اجاب الحسين معتذرا عن تقدير ما يحتاجه فيصل في سوريا دون استشارته، مع الاخذ بنظر الاعتبار صعوبة استيفاء الضرائب في سوريا دون ان تمر سنة على الاقل على انتهاء الحرب لاستعادة نفسها من ويلاتها، اما بالنسبة له فقد وعد بتقليص كبير في معونته بعد مرور شهر من احتلال المدينة.

وحدد هذه الاعانة بـ 130.000 جنيه كمبلغ ضروري يستلمه بعد الحرب شهريا.
وهو المبلغ الذي حدده مكماهون للحسين خلال مراسلاتهما قبيل الثورة، كتعويض للاحتلال البريطاني المؤقت لمدينة البصرة، وذلك ما اجاب به على استغراب ولسن وجهله بهذا الاتفاق الذي تثبت من صحته فيما بعد.

وامتدادا لما تبنته بريطانيا في سياستها المالية مع الحجاز، خصوصا وقد انتهت الحرب بضروراتها، قامت ابتداء من نيسان 1919، بتقليص الاعانة الى (120.000) جنيه شهريا اصاب منها حكومة سوريا وحاكمها فيصل (80.000) جنيه.

فأمسى الحسين يحاول الحفاظ على الرقم الاخير، خلال مباحثاته مع ولسن في نيسان 1919، لضرورته في تنفيذ الاصلاحات الداخلية ـ كما ذهب ـ وتطويرالبلد مستقبلا بما في ذلك موسم الحج، ووعد باكتفاء الحجاز بالدخل المحلي، اذا ما استمرت بريطانيا على صرف الاعانة الاخيرة مدة سنتين، كما تعهد بفرض الضرائب المحلية عند استقرار الاوضاع.

لقد كان الحسين يعتقد في اعتماد ميزانية الحجاز على اقطار سورية والعراق الغنيتين لحين تمكنه من الاعتماد على نفسه، ولم يكن طلبه بتعويض الاحتلال البريطاني للبصرة، الا تأكيدا على ادراكه بحاجة الحجاز الى معونة كافية.

وقد اشار ولسن في تقريره عند اجتماعه بالحسين، ان الاخير في تلميحه بالاستقالة انما يؤكد ايضا عدم قدرته على الاستمرار دون الاعانة الشهرية.

وعلى اية حال فإن بريطانيا لم تلتفت باهتمام الى مطالب الحسين، واقترحت تخفيض الاعانة مجددا الى (100.000) جنيه شهريا، ولم يكن بوسع الحسين ـ بعد إبلاغه بالامر ـ سوى التعبير عن امتعاضه، واوضح ان بريطانيا قادرة على منحه ما تعتقده مناسبا لكنه عاجز عن الاستمرار في تنفيذ مهامه الآن، فالاعانات التي كانت تدفع لتغطية الضرورات العسكرية ضرورية ايضا لمواجهة متطلبات الادارة والتطوير.

والحقيقة ان المعتمد البريطاني في جدة (ولسن) ابدى محاذيره للنتائج التي قد تترتب على سياسة حكومته ازاء اعاناتها المالية للحجاز ونصح بالدقة والتروي في تخفيض هذه الاعانات، وعدم ترجيحه لتخفيضها الى ما دون (100.000) جنيه، بعد ان اصبح في النية تخفيضها الى (80.000) جنيه شهريا، واسهب في تبرير وجهة نظره هذه ومغبة التمادي في سياسة التقتير المالي، مقترحا إبقاء الـ (100.000) جنيه اعانة شهرية كحل وسط لما ترتئيه حكومته بشأن الاعانات المخصصة للحجاز.

وقد اخذت الحكومة البريطانية ـ كما يبدو ـ بهذه الملاحظات والتي كان لكل من هوغارت ومكماهون رأيهما المساند لها، فاقرت صرف المبلغ الاخير لغاية آب والاشهر التي تليه.

لكنها عدلت عن مواصلة صرفها عند شهر آب 1919، وارتأت تخفيضها الى (75.000) لكلا الشهرين آب وايلول، ولم تكتف بذلك، وانما اوصت بتبليغ الحسين بتخفيض المبلغ الاخير الى (50) الف في تشرين الاول، و (25) الف لتشرين الثاني وايقافها عند هذا الحد، بيد انها عادت واخذت باقتراح المندوب السامي البريطاني الذي ارتأى صرف (100) الف جنيه لشهر آب، واخرى لشهر ايلول لدعم الحسين ماليا بسبب موسم الحج، بينما تقلص الى (75) الف لتشرين الاول و (50) الف لشهر تشرين الثاني 1919، و (25) الف لكانون الاول، واضافت وزارة الخارجية التي اقرت الاقتراح السابق، على صرف (25) الف اخرى لشهر كانون الثاني واخرى لشباط 1920، فاستمر دفع هذه المقادير حتى نيسان 1920، حيث شرعت حينها بإيقافها.

ولم تصل الحسين بعد هذه الفترة والعام الذي يليها (1921) سوى مبلغ قدره (27.253) جنيه  اي بما معدله 2.71 جنيه للشهر الواحد. علما ان مقدار ما وصل الحسين من الاعانات في الفترة ما بين نيسان 1919ـ 31 آذار 1920، بلغ 925.575 جنيها  اي بما معدله (85) الف شهريا تقريبا.

ان السياسة المالية التي اتبعتها بريطانيا مع الحسين لا تخرج عن كونها جزءا من سياستها العامة وتنعكس عليها وما تنعكس على السياسة العامة من مواقف، فقد اخذت حصة الحسين من الاهتمام البريطاني بالتضاؤل كلما وجدت بريطانيا امكانية الاستغناء عن خدماته وبالذات بعد انتهاء الحرب في وقت اخذ فيه نجم عبد العزيز ابن سعود بالتألق، خصوصا بعد انتصاره الذي سجله على الجيش الحجازي في معركة (تربة) 1919، وبما كان يصاحب هذا التطور من دعم من قبل حكومة الهند التي اخذت كفتها بالارتفاع على مدرسة القاهرة ومرشحها الحسين.

يضاف الى ذلك الخلافات التي اخذت تسود علاقة الحجاز وبريطانيا، وما كان لها من مردود سلبي على موقف الاخيرة تجاه الحسين، بما في ذلك موقفها من الاعانات المالية التي استخدمتها ورقة رابحة في إذلال حليفها وهذا ما يتجلى واضحا في فصولنا القادمة.

استمرت القطيعة المالية حتى مناقشتها في مؤتمر القاهرة الذي ترأسه (ونستن شرشل) وزير المستعمرات في آذار 1921، لكن ذلك لم يغير الموقف العام لصالح الحسين، بقدر ما غيره لا بن سعود.

ولعل في الدعم الذي حظي به الاخير في المؤتمر من قبل حكومة الهند بشخص ممثلها السير (برسي كوكس) ( P. Cox) المندوب السامي في العراق، اثره في ذلك.

فقد وقف الاخير ـ عند مناقشة الاعانات المالية المخصصة للحكام العرب ـ مدافعا عن حليفه النجدي وقدراته القتالية الى الحد الذي يمكنه تهديد المصالح البريطانية، ومع ذلك فإنه ـ كما ذهب كوكس ـ يتحلى بالتواضع، ولم يدع السيادة او الحقوق التي تقتضي مضاعفة اعاناته المالية.

فضلا عن حفظه للنظام والامن في بلاده، بما في ذلك حمايته لطرق القوافل.
ولهذه الاسباب يجد كوكس منح ابن سعود اعانة مالية كالتي تخصص للحسين.

ومع اقرار شرشل لما ذهب اليه كوكس، الا انه لم يكن مقتنعا كليا، وكان يأمل اقامة علاقة ودية بين حكام الجزيرة، ومع ذلك فلم يمتنع من الاخذ برأي كوكس واقترح صرف (100.000) جنيه لكل من الحسين وابن سعود.

لم تكن بريطانيا لتغدق هذه الاموال دون مقابل، وهي كما تقدم تخضع بالضرورة لسياستها المرسومة في المنطقة.
إذ كان على الحسين الموافقة على سياسة الحلفاء التي خرجوا بها بعد مؤتمر الصلح سنة 1919.

ولأنه حافظ على موقفه السابق والمعارض لهذه السياسة، هذه الفترة، فإن عليه مواجهة شبح الافلاس الذي تراءى له منذ بداية العام الماضي (1920)، بعد ان اصبح صرف الاعانات المالية امرا بعيدا جراء موقفه من هذه السياسة.

الأمر الذي كان له دوره الرئيسي في تردي الاوضاع الاقتصادية للمملكة، فانهيار مؤسساتها تدريجيا في سنواتها الاربع المتبقية.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال