السكك الحديدية في تونس: تاريخ عريق وشريان حيوي للاقتصاد الوطني
تُعد شبكة السكك الحديدية في تونس إحدى أقدم وأهم البنى التحتية للنقل في البلاد، حيث تمتد جذورها إلى أواخر القرن التاسع عشر. لم تكن هذه الشبكة مجرد وسيلة لنقل الأفراد، بل كانت ولا تزال شريانًا اقتصاديًا واجتماعيًا يربط مختلف الأقاليم ويخدم قطاعات حيوية مثل التعدين والتجارة.
1. الجذور التاريخية والنشأة (1872 والعهد الاستعماري):
بدأت قصة السكك الحديدية في تونس في عام 1872 بافتتاح أول خط حديدي يربط بين تونس العاصمة وحلق الوادي، والذي امتد لاحقًا إلى المرسى (TGM).
- الدور الاستعماري: تطورت الشبكة بشكل كبير خلال فترة الحماية الفرنسية، حيث كانت سكك الحديد بمثابة "الحبل السري" لخدمة الأهداف الاقتصادية والاستعمارية، بالتركيز على نقل الثروات والموارد الطبيعية، خاصة الفوسفات، من مناطق الإنتاج الداخلية (قفصة مثلاً) إلى الموانئ في الساحل.
- تعدد المقاييس: تتسم الشبكة التونسية بظاهرة فريدة وهي تعدد مقاييس السكة (عرض القضبان). فالخطوط في شمال تونس تستخدم المقياس القياسي (1435 ملم)، بينما تستخدم الخطوط في وسط وجنوب البلاد المقياس المتري (1000 ملم)، وهو اختلاف يعكس مراحل الإنشاء المختلفة والتخصص الجغرافي للشبكة.
2. الإدارة الوطنية والشبكة الحالية:
بعد الاستقلال، آلت مسؤولية تشغيل وصيانة وتطوير هذه الشبكة إلى الدولة التونسية.
- المشغل الرئيسي: تأسست الشركة الوطنية للسكك الحديدية التونسية (SNCFT) بموجب مرسوم صدر في 27 ديسمبر 1956، وهي الشركة الحكومية المكلفة بإدارة وتشغيل كامل شبكة السكك الحديدية، والتي يبلغ طولها الإجمالي حاليًا حوالي 2145 كيلومترًا وتضم نحو 200 محطة.
- وحدات الأعمال المتخصصة: تُقسم أنشطة الشركة الوطنية للسكك الحديدية إلى وحدات أعمال متخصصة لضمان كفاءة الخدمة، وتشمل:
- وحدة نقل المسافرين على الخطوط البعيدة (بين المدن).
- وحدة نقل المسافرين على خطوط أحواز تونس (الضواحي).
- وحدة نقل المسافرين على خط أحواز الساحل (بين سوسة والمهدية).
- وحدة نقل الفسفاط والمواد الأولية.
- وحدة نقل البضائع العامة.
3. الخدمات الأساسية للسكك الحديدية:
تخدم السكك الحديدية التونسية أغراضًا متعددة، تمتد من نقل الركاب الحيوي إلى نقل البضائع الإستراتيجية:
- نقل المسافرين (الخطوط البعيدة): تربط القطارات السريعة والمكيفة بين المدن الكبرى (تونس العاصمة، سوسة، صفاقس، قابس) وتوفر خيارات سفر تتنوع بين الدرجة الثانية والأولى ودرجات الإكسبريس المريحة.
- نقل المسافرين (خطوط الأحواز): تلعب قطارات الضواحي دورًا حيويًا في فك العزلة وربط المناطق السكنية بوسط العاصمة تونس، بالإضافة إلى خط مترو الساحل الذي يخدم مدن منطقة الساحل.
- نقل البضائع والمواد الإستراتيجية: لا تزال الأهمية الاقتصادية للسكك الحديدية تتركز في نقل كميات هائلة من المواد الأولية، خاصة الفوسفات ومشتقاته، من مناجم قفصة إلى معامل التحويل والموانئ التصديرية، مما يجعلها عنصرًا حاسمًا في التنمية الاقتصادية.
4. مشروع الشبكة الحديدية السريعة (RFR): مستقبل النقل الحضري
لمواجهة الاكتظاظ المروري المتزايد في العاصمة، أطلقت تونس مشروعًا عملاقًا لتطوير النقل الحضري يعتمد على القطار، وهو الشبكة الحديدية السريعة (Réseau Ferroviaire Rapide - RFR).
- الهدف: يهدف المشروع إلى النهوض بالنقل الحضري العمومي وتوفير بديل فعال للسيارات الخاصة في إقليم تونس الكبرى والمناطق ذات الكثافة السكانية العالية.
- المكونات: تتكون الشبكة الحديدية السريعة من 5 خطوط رئيسية مكهربة (أ، ج، د، هـ، ج+ف) يبلغ طولها الإجمالي حوالي 86 كيلومترًا. يربط هذا المشروع بين العاصمة وضواحيها الرئيسية مثل برج السدرية، منوبة، القباعة، والمحمدية.
- الأثر المتوقع: عند اكتمال المشروع، من المتوقع أن يساهم في تقليص الضغط على الحافلات والسيارات الفردية، حيث يمكن لسفرة واحدة للقطار أن تحل محل عدد كبير من المركبات الخاصة، بالإضافة إلى كونه وسيلة نقل أكثر صداقة للبيئة.
5. التحديات الراهنة:
على الرغم من أهميتها التاريخية والتشغيلية، يواجه قطاع السكك الحديدية في تونس تحديات هيكلية كبيرة، بما في ذلك تقادم جزء من الأسطول والبنية التحتية، الحوادث المتكررة التي تعيق سير العمل، وضرورة التطوير المستمر للشبكة لتلبية متطلبات النمو السكاني والاقتصادي.
في الختام، تبقى السكك الحديدية في تونس أحد أهم أركان منظومة النقل، خاصة في الجانب الاقتصادي عبر نقل الفوسفات وفي الجانب الاجتماعي عبر ربط المدن ببعضها البعض، ويُعلق عليها آمال كبيرة لتطوير النقل الحضري عبر مشاريع مثل RFR.