حلم الطيران الأبدي: من الأساطير المصرية القديمة إلى الكشف المدهش لنموذج "طائرة سقارة"

رحلة الإنسان الأبدية نحو السماء: من الأساطير إلى الواقع

لطالما كان حلم التحليق في السماء من أقدم طموحات البشر. فمنذ فجر التاريخ، نظر الإنسان إلى الطيور، يتمنى أن يمتلك قدرتها على الطيران بحرية. وفي عالم الأساطير، كانت هذه القدرة حكرًا على الآلهة الخالدة التي تحلق بين النجوم، كما هو الحال في الأساطير المصرية القديمة.


الطيران في الفكر المصري القديم:

لم يكن حلم الطيران مجرد فكرة عابرة في الحضارة المصرية القديمة، بل كان جزءًا أصيلًا من معتقداتهم الدينية والفلسفية. في "نصوص الأهرام" التي يعود تاريخها إلى أكثر من 4500 عام، نجد تصورًا لملوك مصر بعد الموت وهم يطيرون في رحلة أزلية مع الآلهة، مستخدمين "قوارب سماوية" كمركبات للتحليق بين النجوم.

وللتعبير عن هذا الحلم، لجأ المصريون القدماء إلى الفن. فقد جسدت نقوشهم شخوصًا آدمية مزودة بأجنحة من الريش، تمامًا مثل الطيور. كما قاموا بإضافة أجنحة إلى الحيوانات المقدسة، ليس فقط لتصويرها في شكل أسطوري، بل لتعبر عن مفهوم التحليق والوصول إلى عالم الآلهة. هذه الرؤى الفنية والمعتقدات الروحية أظهرت شغفهم العميق بفكرة الطيران، حتى وإن كانت مجرد خيال أو اعتقاد ديني.


اكتشاف يغير التاريخ: طائرة سقارة

بالرغم من هذا الشغف الأسطوري، لم يتم العثور على أي دليل مادي يشير إلى وجود آلات طيران حقيقية في العصور القديمة. هذا الاعتقاد ظل سائدًا حتى جاء الاكتشاف الفريد الذي قام به الدكتور خليل مسيحة.

في عام 1898، عثرت الحفائر الأثرية في منطقة سقارة، بالقرب من هرم زوسر، على مجموعة من النماذج الخشبية الصغيرة. صُنفت هذه النماذج في البداية على أنها مجسمات لطيور، وكان من ضمنها نموذج يُعرف الآن باسم "طائرة سقارة". تم عرض هذا النموذج في المتحف المصري بالقاهرة، وسُجل في أرشيفه كنماذج خشبية لطائر، ويُقدر عمره بحوالي 200 قبل الميلاد.

ظل النموذج معروضًا في المتحف لأكثر من سبعين عامًا ضمن مجموعة الطيور، ولم يلتفت أحد إلى خصائصه غير العادية. ولكن في عام 1969، لفت النموذج انتباه الدكتور خليل مسيحة، وهو طبيب مصري لديه شغف كبير بعلم الآثار وخبرة واسعة في هواية صناعة نماذج الطائرات.


خصائص علمية تدل على قدرته على الطيران:

بعد دراسات تحليلية معمقة، توصل الدكتور خليل مسيحة إلى استنتاج جريء: هذا النموذج ليس مجرد طائر، بل هو نموذج لطائرة شراعية مصممة خصيصًا للطيران. وفي يناير عام 1972، أعلن الدكتور مسيحة عن كشفه في مؤتمر صحفي عُقد بالمتحف المصري.

استند الدكتور مسيحة في بحثه إلى أسس علمية في مجال ديناميكا الطيران، حيث أشار إلى عدة خصائص مميزة في النموذج:

  • الشكل الانسيابي للجسم: جسم النموذج يشبه جسم السمكة، وهو تصميم يساعد على الانسياب في الهواء بسهولة، وهي خاصية أساسية في تصميم الطائرات الحديثة.
  • شكل الأجنحة وزاوية ميلها: تتميز الأجنحة بانحناءة خفيفة إلى الأسفل تُسمى "الزاوية السالبة". هذه الزاوية تُستخدم في تصميم أجنحة الطائرات الحديثة لزيادة الثبات والدفع، وهي موجودة في طائرات مثل قاذفة القنابل الأمريكية B-52 وبعض الطائرات الروسية الصنع.
  • الذيل الرأسي: يمتلك النموذج ذيلًا رأسيًا، وهو ما لا يوجد له مثيل في الطيور، فكل الطيور لها ذيول أفقية. وجود الذيل الرأسي يعزز من قدرة النموذج على الاستقرار والتوازن أثناء الطيران.
  • الدليل على وجود موازن أفقي مفقود: عند فحص النموذج بدقة، يتبين وجود كسر في الجزء الخلفي من الذيل الرأسي. يعتقد الدكتور مسيحة أن هذا الكسر كان مكانًا لتثبيت موازن أفقي، وهو جزء أساسي في الطائرات الحديثة يساعد على التحكم في الارتفاع. يُرجح أن هذا الجزء فُقد بمرور الزمن نظرًا لقدم النموذج الذي يتجاوز عمره 2000 عام.
  • غياب الأرجل: من أبرز الأدلة على أن النموذج ليس لطائر هو خلوه من الأرجل، وهي خاصية أساسية في كل نماذج الطيور المحفوظة في المتحف المصري.

هذه الخصائص العلمية التي حددها الدكتور خليل مسيحة تعطي مصداقية كبيرة لفرضيته بأن نموذج سقارة لم يكن مجرد لعبة أو تمثال، بل كان محاولة مبكرة وذكية جدًا من قبل المصريين القدماء لتجسيد حلمهم الأبدي بالطيران.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال