تربة الحشائش المعتدلة: "التشرنوزيم" (التربة السوداء الخصبة)
تُعد تربة الحشائش المعتدلة، المعروفة عالميًا باسم التشرنوزيم (Chernozem)، والتي تعني حرفيًا "التربة السوداء"، واحدة من أخصب أنواع التربة على وجه الأرض. وهي تربة متميزة تتكون في مناطق السهول الداخلية التي تهيمن عليها الأعشاب الطويلة والكثيفة، ضمن المناخات شبه الجافة والموسمية التي تتميز بصيف دافئ وشتاء بارد وجاف.
التوزيع الجغرافي والموقع:
تنتشر تربة التشرنوزيم بشكل أساسي في وسط القارات (الأقاليم القارية الداخلية)، حيث تكون بعيدة عن التأثيرات البحرية الملطفة.
1. النطاق العرضي الرئيسي:
- نصف الكرة الشمالي: تتركز هذه التربة بشكل كبير بين خطي عرض 30∘ و 50∘ شمالاً، مشكلة نطاقًا شبه متصل عبر القارات الكبرى.
- نصف الكرة الجنوبي: تتواجد في عروض جغرافية أقل انخفاضًا نسبيًا مقارنة بنظيرتها الشمالية، وذلك يعود إلى التوزيع الكتلي للقارات في هذا النصف.
2. الأقاليم الرئيسية لانتشار التشرنوزيم:
تتمثل هذه التربة في ستة أقاليم رئيسية ذات أهمية زراعية عالمية، تنقسم بين نصفي الكرة الأرضية:
أ. في نصف الكرة الشمالي:
- نطاق الاستبس الأوراسي (Eurasian Steppe): يمثل هذا النطاق أكبر تجمع للتشرنوزيم في العالم، ويمتد من أوكرانيا وروسيا الغربية (جنوبًا من نطاق الغابات) شرقًا عبر جنوب سيبيريا وصولاً إلى آسيا الوسطى. ويُعرف بكونه سلة خبز أوروبا الشرقية.
- السهول العظمى في أمريكا الشمالية (Great Plains): يمتد هذا الإقليم الخصب من كندا جنوبًا عبر الولايات المتحدة الأمريكية، ويشمل ولايات زراعية رئيسية مثل نبراسكا وكانساس وداكوتا، حيث يُشكل قاعدة إنتاج الحبوب الرئيسية في القارة.
- سهول منشوريا (Manchurian Plains): تقع هذه السهول في شمال شرق الصين، وتُعد منطقة زراعية هامة تتميز بخصوبتها العالية الناتجة عن هذه التربة السوداء.
ب. في نصف الكرة الجنوبي:
- إقليم البمباس في أمريكا الجنوبية (The Pampas): يشمل هذا الإقليم أجزاء كبيرة من الأرجنتين والأوروغواي، ويُعد من أهم مناطق إنتاج القمح والذرة وتربية الماشية في العالم، بفضل خصوبة التشرنوزيم هناك.
- إقليم الفيلد في جنوب أفريقيا (The Veld): تتواجد هذه التربة في الهضبة الوسطى، وتدعم النشاط الزراعي والرعوي في البلاد.
- السهول الداخلية لحوض ماري-دارلنج في أستراليا: يغطي هذا الحوض نطاقًا زراعيًا هامًا في جنوب شرق أستراليا، حيث تساعد هذه التربة على دعم زراعات الحبوب في مناطق الري.
الخصائص الفيزيائية والكيميائية المميزة:
تستمد تربة التشرنوزيم خصائصها الفريدة من بيئة الحشائش الغنية، والتي توفر كميات هائلة من المواد العضوية سنويًا.
1. الغنى بالمواد العضوية والدبال (Humus):
- اللون الداكن: السمة الأبرز هي لونها الأسود الداكن أو الأسود المائل للرمادي، والذي يشير إلى التركيز العالي للمواد العضوية المتحللة.
- ارتفاع نسبة الدبال الناعم: تتميز الطبقة السطحية (أفق A) بسماكة كبيرة تصل إلى متر في بعض الأحيان، وهي غنية بـ الدبال الناعم (Humus) المستقر، وهو المادة التي تمنح التربة خصوبتها الاستثنائية.
- النيتروجين: نتيجة لغناها بالدبال، فإن تربة التشرنوزيم غنية جدًا بعنصر النيتروجين والمغذيات الأساسية الأخرى، مما يجعلها مثالية للزراعة بدون حاجة كبيرة للإخصاب الصناعي في المراحل المبكرة.
2. التركيب والبنية (Structure and Texture):
- التركيب الجيد: تتميز التشرنوزيم بتركيب حبيبي أو كتلي جيد يُعرف باسم "البنية الفتاتية"، مما يساهم في سهولة تفتتها وحراثتها.
- التهوية والصرف: تسمح هذه البنية الجيدة بتغلغل الجذور بكفاءة عالية، كما تضمن تهوية مناسبة للتربة وصرفًا جيدًا للمياه الزائدة.
- قدرة فائقة على الاحتفاظ بالرطوبة: على الرغم من تكونها في أقاليم شبه جافة، إلا أن المحتوى العالي من الدبال يمنحها قدرة كبيرة على الاحتفاظ بالرطوبة، مما يساعد المحاصيل على تحمل فترات الجفاف القصيرة، ويجعلها تربة عالية الإنتاجية في زراعات المحاصيل البعلية (المعتمدة على الأمطار).
باختصار، تُعد تربة التشرنوزيم نتاجًا لتفاعل متوازن بين المناخ القاري البارد والحشائش الغنية، مما أدى إلى تكون تربة فائقة الجودة تدعم سلة الغذاء العالمية.