الشيخ أبو مهدي الغوث: رائد التصوف المتكامل في دكالة والقرن السادس الهجري
يمثل سيدي أبو مهدي وين السلامة بن جلدا سن الدغوغي، المعروف بلقب أبي مهدي الغوث، نموذجًا بارزًا للولي الصالح والعالم العامل في المغرب خلال منتصف القرن السادس الهجري (الثاني عشر الميلادي). ولم تقتصر مكانته على الزهد الشخصي، بل امتدت لتجعله واحدًا من الأعمدة الروحية التي ارتكزت عليها حركة التصوف في منطقة دكالة والمناطق المجاورة.
سياق النشأة والمكانة العلمية الروحية:
نشأ الشيخ أبو مهدي في بلد بني دغوغ في إقليم دكالة، وهي منطقة كانت تُعرف بحركة علمية ودينية نشطة. إن انتماءه الجغرافي هذا ربطه بجذور المجتمع المغربي الأصيل، الذي كان يقدس العلم الشرعي ويحترم مقامات الأولياء.
- تكامل الفقه والتصوف: تميّز أبو مهدي الغوث بامتلاكه معرفة عميقة بالفقه والعلم الشرعيين. في عصر كان فيه الصراع بين المدرسة الفقهية الرسمية والنزعة الصوفية آخذًا في التبلور، كان أبو مهدي من أولئك الذين جمعوا بينهما؛ فالعلم الشرعي كان أساسًا لتربيته الروحية، مما ضمن سلامة منهجه كـشيخ مرشد مقتدر. لم يكن مجرد ناسك، بل كان عالمًا يفتي ويوجه.
- بلوغ مقام الأفراد: في السلم الصوفي، يمثل بلوغ مقام "الأفراد" أو "الأفراد الأكابر" قمة السمو الروحي. هذا المقام يعني أن الولي قد وصل إلى درجة عالية جدًا من القرب الإلهي والتحقق، لدرجة أنه قد يكون منفردًا ببعض أسراره أو رؤاه، مما جعله محط أنظار الأتباع ومرجعًا لأهل عصره. ولهذا كان يُلقب بـ**"الغوث"**، وهو لقب عظيم في مراتب الأولياء يدل على كونه ملجأً ومغيثًا للمستغيثين.
رسالة الكرامات والمنهج التربوي:
تواترت كرامات أبي مهدي الغوث وانتشرت بين الناس، ولم تكن هذه الكرامات مجرد حكايات، بل كانت دلالات يُستشهد بها على قوة إيمانه وصدق صلته بالله.
- فلسفة الكرامة في الإرشاد: كانت فلسفة الشيخ تجاه الكرامات متفردة وعملية. ففي الوقت الذي قد يرى فيه بعض المتصوفة إخفاء الكرامة نوعًا من التواضع، وجه أبو مهدي وصيته الشهيرة: «لا تكتموا عن إخوانكم ما تشاهدونه من الكرامات وحدثوهم بها، فتحببوا لهم طاعة الله»
هذه المقولة تتجاوز مجرد سرد القصص، إنها تضع الكرامة في سياق التربية الدعوية والإرشادية. فكشف الكرامة هنا ليس للمفاخرة الشخصية، بل هو:
- بناء اليقين: يقدم دليلاً حسيًا ملموسًا لضعاف الإيمان على أن للطاعة ثمارًا عظيمة لا تقتصر على الحياة الآخرة.
- تحبيب الطاعة: الكرامة تصبح دافعًا خارجيًا قويًا يحفز المريدين على بذل الجهد والسير في طريق الطاعة، لأنهم يرون أثر هذه الطاعة يتجسد في حياة شيوخهم. فبدلاً من أن تكون الطاعة عبئًا، تصبح سبيلًا إلى مقامات التكريم الإلهي.
الخاتمة والتأثير المستمر:
تُوفي الشيخ أبو مهدي الغوث حوالي عام 560 هـ، منهيًا حياة عامرة بالعلم والزهد. غير أن تأثيره لم ينقطع بوفاته.
- الضريح كمركز ديني واجتماعي: يُعدّ مقامه في بلد كشكاط، التابع لحوز آسفي بـبلد حمير، من المزارات العظيمة في المنطقة. إن استمرار هذا الضريح كمركز للزيارة دليل على مكانته الروحية الباقية. ولم تقتصر وظيفته على التبرك والدعاء، بل تحول إلى مركز اجتماعي وديني سنوي هام.
- الموسم السنوي: إن إقامة موسم سنوي (احتفال ديني وتجاري) على ضريحه يبرهن على أن الشيخ ما زال يشكل نقطة جذب ووحدة للقبائل والمجتمع المحلي. هذه المواسم هي شكل من أشكال الحفاظ على الذاكرة الجماعية وتعزيز الروابط الروحية والاجتماعية التي أسسها الشيخ في حياته، مما يؤكد أن تأثيره الروحي تخطى حدود دكالة ليصبح جزءًا من النسيج الاجتماعي والديني الأوسع في منطقة حوز آسفي.