نتائج حادثة دنشواي 1906: لحظة الصدام التي كشفت وجه الاحتلال وأدت إلى سحب كرومر وتأسيس الحزب الوطني، مُعيدةً تشكيل خريطة العمل السياسي في مصر

حادثة دنشواي (1906): نقطة تحول في المواجهة بين مصر والاحتلال البريطاني

تُعد حادثة دنشواي، التي وقعت في قرية دنشواي بالمنوفية عام 1906، بمثابة اختبار قاسٍ وحاسم للوجود البريطاني في مصر، حيث كشفت عن الطبيعة القمعية للاحتلال وأسست لمرحلة جديدة من العمل الوطني المنظم والمكشوف دولياً.


أولاً: تفاصيل الحادثة والتصعيد التعسفي

لم تكن حادثة دنشواي في بدايتها سوى احتكاك بسيط بين قوة الاحتلال والسكان المحليين، لكن رد الفعل البريطاني هو الذي حولها إلى أزمة سياسية كبرى.

  • الخلفية والواقعة: تعود الواقعة إلى ممارسة عدد من الضباط البريطانيين هواية صيد الحمام في القرية، وهو ما تسبب في اعتراض الأهالي الذين كانوا يعتمدون على الحمام كمصدر رزق. تطور الاحتكاك إلى اشتباك بسيط أدى إلى وفاة ضابط بريطاني نتيجة ضربة شمس أو مقاومة الأهالي.
  • الرد القمعي: كان الرد البريطاني على الحادثة مبالغاً فيه بشكل صادم. شُكّلت محكمة عسكرية استثنائية (مُفتش عنها اللورد كرومر بنفسه)، أصدرت أحكاماً جائرة ومتعسفة، شملت أحكاماً بالإعدام شنقاً والجلد والسجن مع الأشغال الشاقة بحق الأبرياء. نُفذت الأحكام علناً في القرية لإرهاب السكان، مما أثار موجة غضب عارمة تجاوزت حدود مصر.

ثانياً: استثمار الأزمة في خدمة القضية الوطنية

أدرك القائد مصطفى كامل على الفور أن وحشية أحكام دنشواي تمثل فرصة نادرة لفضح الاحتلال أمام ضمير العالم، مستغلاً الأدوات الإعلامية والدبلوماسية ببراعة فائقة.

1. تحريك الرأي العام الدولي:

ركز كامل جهده على مخاطبة أوروبا، خصوصاً فرنسا (التي كانت منافسة لبريطانيا) وإنجلترا نفسها:

  • الرحلات والخطابات: سافر مصطفى كامل إلى أوروبا، وألقى خطباً حماسية ومؤثرة في البرلمانات والمؤتمرات الأوروبية، مُبيناً التناقض بين شعارات بريطانيا عن "الحرية والعدالة" وما حدث في دنشواي من قمع وحشي للأهالي.
  • الدبلوماسية الإعلامية: أدرك كامل أن الوصول للقارئ الأوروبي يتطلب أدواته الخاصة. لذلك، عمل على إصدار طبعتين خاصتين باللغتين الإنجليزية والفرنسية من جريدته "اللواء". كان هذا الإصدار بمثابة سلاح إعلامي ودبلوماسي لتقديم الرواية المصرية للحادثة ومطالب الحركة الوطنية مباشرة إلى العواصم الأوروبية، متجاوزاً محاولات الاحتلال لتعتيم الحقائق.

2. الضغط الشعبي والسياسي الداخلي:

في الداخل، استمر كامل في استخدام الصحافة المصرية لتأجيج الشعور الوطني، مُشكلاً جبهة ضغط متماسكة ضد الإدارة البريطانية.


ثالثاً: التداعيات الإدارية والسياسية المباشرة

كانت النتائج السياسية للضغط الشعبي والدولي سريعة ومزلزلة، مؤكدة أن حادثة دنشواي كانت نقطة اللاعودة.

1. سقوط رمز الاحتلال (اللورد كرومر):

كان أهم نتائج الحادثة هو سحب اللورد كرومر من مصر في عام 1907م.

  • الرمزية والإشارة: كان كرومر هو العقل المدبر للاحتلال والممثل المطلق للسلطة البريطانية في مصر على مدى 24 عاماً. اضطرت الحكومة البريطانية في لندن للتضحية به لتهدئة الغضب المتصاعد محلياً ودولياً، واعترافاً ضمنياً بأن سياساته القمعية وصلت إلى طريق مسدود.
  • الانتصار الوطني: اعتبر سحب كرومر انتصاراً عظيماً للحركة الوطنية، حيث أثبت قدرة الشعب المصري على إجبار أقوى قوة استعمارية على التراجع، مما أدى إلى اشتداد الحركة الوطنية ورفع سقف مطالبها.

2. تحويل العمل الوطني إلى عمل مؤسسي منظم:

استغل مصطفى كامل الزخم الناتج عن عزل كرومر لترسيخ العمل الوطني في أطر دائمة ومنظمة، لضمان استمراريته بعد وفاته المحتملة.

  • تأسيس الحزب الوطني (ديسمبر 1907): قام كامل بتحويل التجمعات الصحفية والشخصية إلى كيان سياسي منظم هو الحزب الوطني. كان هذا الحزب يهدف إلى جمع صفوف الوطنيين تحت برنامج واضح يستهدف الجلاء والدستور، مُنهياً بذلك مرحلة العمل الفردي ومُدخلاً الحركة الوطنية مرحلة المؤسسات.
  • دعم التعليم العالي: بالتوازي مع العمل السياسي، عمل كامل على تأسيس ورعاية المدارس العليا، إيماناً منه بأن التحرر السياسي يجب أن يرتكز على التحرر الثقافي والتعليمي. كان الهدف هو تخريج نخبة وطنية مثقفة قادرة على تولي زمام الأمور بعد الجلاء، بعيداً عن سيطرة التعليم الذي يُشرف عليه الاحتلال.

رابعاً: الأثر طويل المدى (تغير منهج الاحتلال)

دفعت حادثة دنشواي وما تلاها من ضغوط بريطانيا إلى تغيير تكتيكاتها. حيث أدرك خلفاء كرومر أن سياسة القمع المطلق لم تعد فعالة، وبدأت الإدارة البريطانية في محاولات لامتصاص الغضب عبر إظهار بعض المرونة أو القيام بإصلاحات شكلية، لكن هذه المريرات لم تنجح في إخماد جذوة الحركة الوطنية التي زرعت دنشواي بذورها.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال