تصنيف المؤسسات العمومية: الأبعاد والمعايير
تُعد المؤسسات العمومية ركيزة أساسية في الهيكل الإداري والاقتصادي للدولة، وتختلف فيما بينها اختلافًا كبيرًا من حيث الهدف، وطبيعة النشاط، وآلية الإدارة. إن تصنيف هذه المؤسسات ليس مجرد عملية أكاديمية، بل هو أداة ضرورية لتحديد الإطار القانوني المناسب لكل منها، وتطبيق نظام الحوكمة الأكثر فعالية، وتحديد السياسة الاقتصادية للدولة تجاهها (كالاحتفاظ، أو الإصلاح، أو الخوصصة).
يمكن تصنيف المؤسسات العمومية وفقًا لعدة معايير رئيسية ومتكاملة، أبرزها المعيار القانوني الإداري (حسب طبيعة النشاط)، والمعيار الاقتصادي (حسب الاستراتيجية والجدوى).أولاً: التصنيف حسب المعيار القانوني والإداري (طبيعة النشاط)
يُعد هذا التصنيف هو الأكثر شيوعًا في القانون الإداري، حيث يحدد النظام القانوني الذي تخضع له المؤسسة:
1. المؤسسات العمومية ذات الطابع الإداري (EPA):
هي المؤسسات التي تمارس نشاطًا يتعلق بـالخدمة العامة غير الربحية، وتكون مهمتها الأساسية تحقيق مصلحة عامة بشكل مباشر.
- طبيعة النشاط: تقديم الخدمات الاجتماعية، أو الثقافية، أو التعليمية، أو الصحية، أو البحث العلمي.
- النظام القانوني: تخضع بشكل كبير لقواعد القانون العام (القانون الإداري).
- الموارد البشرية: غالبًا ما يخضع موظفوها لقانون الوظيفة العمومية.
- أمثلة: الجامعات، المستشفيات الحكومية، المتاحف الوطنية، مؤسسات الرعاية الاجتماعية.
2. المؤسسات العمومية ذات الطابع الصناعي والتجاري (EPIC):
هي المؤسسات التي تُنشأ من قبل الدولة لممارسة نشاط اقتصادي بطرق تشبه القطاع الخاص، بهدف تحقيق التوازن بين المصلحة العامة ومتطلبات المنافسة والكفاءة.
- طبيعة النشاط: إنتاج سلع أو تقديم خدمات تجارية وصناعية قابلة للبيع والشراء في السوق.
- النظام القانوني: تخضع في إدارتها الداخلية وتسييرها المالي والمحاسبي لقواعد القانون الخاص (القانون التجاري)، بينما تخضع في علاقتها بالدولة والمصلحة العامة لقواعد القانون العام.
- الهدف: غالباً ما تسعى إلى تحقيق الأرباح أو على الأقل تحقيق التوازن المالي (تغطية التكاليف).
- أمثلة: شركات النقل العمومي، مكاتب البريد والاتصالات، بعض مؤسسات الطاقة والمياه التي تعمل بشكل تجاري.
3. المؤسسات العمومية المتخصصة:
وهي مؤسسات تنشأ لأغراض خاصة أو بصفة استثنائية، مثل:
- المؤسسات العمومية المالية: مثل البنوك العمومية والمؤسسات الائتمانية العمومية المتخصصة.
- المؤسسات العمومية العلمية والثقافية: كالوكالات الوطنية للبحث العلمي أو حفظ التراث.
ثانياً: التصنيف حسب المعيار الاقتصادي (الاستراتيجية والجدوى)
يُستخدم هذا التصنيف لتوجيه السياسات الحكومية المتعلقة بإصلاح القطاع العمومي وتحديد مدى الاحتفاظ بالملكية العامة أو التحول نحو الخوصصة، ويتم بالنظر إلى معيارين أساسيين: الأهمية الاستراتيجية والقدرة على البقاء (الجدوى المالية).
1. المؤسسات الاستراتيجية القابلة للبقاء (الاحتفاظ بدولة):
- التعريف: هي المؤسسات التي تعمل في قطاعات حيوية تمس الأمن القومي، أو السيادة الوطنية، أو تقديم خدمات اجتماعية أساسية يجب أن تبقى تحت سيطرة الدولة لضمان استمراريتها وعدالتها (مثل الدفاع، الطاقة الأساسية، البنية التحتية الحيوية). وهي في الوقت نفسه تتمتع بوضع مالي يمكنها من الاستمرار بكفاءة.
- السياسة: الاحتفاظ بالملكية العمومية مع تحسين الحوكمة والكفاءة الإدارية لضمان أعلى مستويات الأداء.
2. المؤسسات غير الاستراتيجية القابلة للبقاء (الخوصصة):
- التعريف: هي مؤسسات تعمل في قطاعات تنافسية وليست ذات أهمية حيوية للدولة، ولكنها تستطيع تحقيق الأرباح والنمو في ظل آليات السوق. وجودها تحت مظلة الدولة يحد من مرونتها ويشكل عبئاً إدارياً.
- السياسة: التحويل للقطاع الخاص (الخوصصة)، بهدف تعزيز الكفاءة، وجلب التكنولوجيا، وتخفيف العبء المالي عن الدولة، وتشجيع المنافسة.
3. المؤسسات الاستراتيجية غير القابلة للبقاء (الإصلاح والدعم المشروط):
- التعريف: مؤسسات ذات أهمية حيوية (لا يمكن خوصصتها أو تصفيتها)، لكنها تعاني من اختلالات مالية أو هيكلية مزمنة (خسائر متكررة، عجز).
- السياسة: إعادة هيكلة عميقة تشمل الإصلاح الإداري والمالي، وتوفير الدعم الحكومي المشروط (بتحقيق أهداف محددة) لضمان استمرارها في تقديم الخدمة العامة.
4. المؤسسات غير الاستراتيجية وغير القابلة للبقاء (التصفية):
- التعريف: مؤسسات تعمل في قطاعات هامشية، وتعاني من عجز مستمر، ولا يوجد مبرر اقتصادي أو اجتماعي لاستمرارها كمؤسسة عمومية.
- السياسة: التصفية والإغلاق (بيع الأصول)، وذلك لوقف الهدر المالي وتحرير الموارد المخصصة لها.
خاتمة: أهمية التصنيف
إن التمييز الدقيق بين هذه التصنيفات يسمح للسلطات العامة باتخاذ قرارات رشيدة ومناسبة. فالمؤسسة الإدارية يتم دعمها وضمان استمراريتها بغض النظر عن ربحيتها؛ لأن هدفها اجتماعي. بينما المؤسسة التجارية يتم تقييمها بناءً على معايير الكفاءة والجدوى الاقتصادية ومواءمتها للمصلحة الاستراتيجية للدولة، مما يوجه عملية الإصلاح الاقتصادي بكفاءة وفعالية.