الدعارة في الدنمارك: الموقف القانوني المعاصر بين السماح بالممارسة وتجريم الاستغلال، وتحليل أثر قرار عدم حظر شراء الجنس على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للعاملين به

الدعارة في الدنمارك: الإطار القانوني، التطور التاريخي، والآثار الاجتماعية المعاصرة

تمثل الدنمارك نموذجاً فريداً في التعامل مع قضية الدعارة، حيث لا تُعد ممارسة الجنس مقابل المال جريمة في حد ذاتها ولا يُعاقب عليها القانون. ومع ذلك، فإن صناعة الجنس التي تحيط بهذه الممارسة تخضع لتنظيم قانوني صارم وكثير من المحظورات، مما يخلق توازناً دقيقاً بين السماح بالممارسة وتجريم الاستغلال.


أولاً: الإطار القانوني المعاصر (التجريم الجزئي لعام 1999)

يتميز الوضع القانوني الحالي للدعارة في الدنمارك بكونه ليبرالياً تجاه المشتغلين بالجنس، ولكنه متشدد ضد أشكال الاستغلال:

  • عدم تجريم ممارسة البغاء: البغاء مسموح به في الدنمارك ولا عقاب عليه، ويعود هذا الموقف جزئياً إلى تجريم الأنشطة الداعمة للدعارة في عام 1999. ويقوم هذا التجريم الجزئي على فرضية مفادها أن مراقبة تجارة قانونية أسهل من مراقبة تجارة غير قانونية.
  • تجريم أنشطة الطرف الثالث (الاستغلال): تخضع صناعة الجنس لقائمة من المحظورات، حيث تظل أنشطة الطرف الثالث غير قانونية. ويشمل ذلك:

  1. القوادة (Pimping): الاستفادة من إدارة بيوت الدعارة أو أي شكل آخر من أشكال الشراء والاستغلال.
  2. دعارة القاصرين: يُمنع منعاً باتاً استغلال الأشخاص دون السن القانونية.
  3. توسيع التجريم: في عام 2013، صدر مشروع قانون لتوسيع نطاق الأحكام ضد الاستغلال ليشمل أشكالاً أخرى من الدعارة غير بيوت الدعارة، مثل خدمات المرافقة والدعارة في الشوارع، مع زيادة العقوبات ومنح الشرطة المزيد من الصلاحيات.
  • موقف الحكومة من حظر شراء الجنس: في مراجعة عام 2012، أوصى مجلس القانون الجنائي بعدم فرض حظر على شراء الجنس (købesex). وخلص المجلس إلى أن الحظر لا يمكن تبريره إلا كـ "رفض أخلاقي" وأنه من غير المرجح أن يؤدي إلى انخفاض في الدعارة أو الاستغلال، بل قد تكون له عواقب سلبية على البغايا أنفسهن من حيث تدهور أوضاعهن الاقتصادية وزيادة الوصمة الاجتماعية.

ثانياً: القيود المفروضة على المهاجرين والاتجار بالبشر

تُفرض قيود صارمة على المشتغلين بالجنس من خارج الاتحاد الأوروبي كإجراء لمكافحة الاتجار بالبشر:

  • إلغاء الإقامة: يُمنع على المهاجرات من خارج أوروبا العمل في صناعة الجنس. إذا ثبت احترافهن البغاء، فإنهن يخضعن لإلغاء إقامتهن وترحيلهن من البلاد.
  • التركيبة السكانية والهجرة:

  1. تُشير التقديرات إلى أن العمال المهاجرين يشكلون جزءًا كبيرًا من العاملين بالجنس في الدنمارك (حوالي 65% وفقًا لدراسة عام 2009، وحوالي نصف الإجمالي لاحقاً).
  2. أكبر مجموعة تأتي من تايلاند (حوالي 900 شخص)، وكثير منهم يحمل تصريح إقامة أو الجنسية الدنماركية، ويحق لهم الحصول على مزايا اجتماعية.
  3. المجموعة الثانية تأتي من دول الاتحاد الأوروبي في وسط وشرق أوروبا (حوالي 1000 شخص)، وهم متنقلون ولا يحق لهم تلقي مساعدة من الخدمات الاجتماعية الدنماركية.
  4. المجموعة الثالثة والأكثر عرضة للخطر تأتي من إفريقيا (خاصة نيجيريا)، ويُقدر عددهم بحوالي 300 شخص، وهؤلاء هم الأكثر عرضة للاتجار بالبشر.
  • مكافحة الاتجار: أعلنت الحكومة عن حملات لمكافحة الدعارة والابتزاز المتورطين في تنظيم التجارة والاتجار بالبشر، مع تكثيف جهود الشرطة ضد المتاجرين وتبني نهج أكثر تعاطفاً مع الضحايا والشهود.

ثالثاً: التاريخ التشريعي للدعارة في الدنمارك

مرت السياسات الدنماركية تجاه الدعارة بمراحل تطور جذرية، من التجريم الصارم إلى التنظيم السري، انتهاءً بالوضع الحالي:

الفترة المبكرة والتجريم (القرن 17):

  • حظر القانون المدني لعام 1683 (Christian 5.s Danske Lov) صراحة ممارسة الجنس خارج نطاق الزواج (بما في ذلك الدعارة) باعتباره زنا.
  • نص القانون الدنماركي في ذلك الوقت على عقوبة السجن للرجال والجلد للنساء اللاتي يُدان بالزنا.

التنظيم السري والعلني (القرن 19):

  • بدأت الشرطة في تنظيم الدعارة سراً في كوبنهاغن عام 1815 بأمر ملكي، مدفوعة بالخوف من الأمراض التي تنتقل عن طريق الاتصال الجنسي.
  • أُجبرت النساء على التسجيل في سجلات الشرطة والخضوع لفحوصات منتظمة بشكل متزايد، مع الدخول القسري للمستشفى في حالة المرض.
  • في عام 1874، تم الاعتراف بهذا النظام رسمياً في القانون الدنماركي، مع أسس قانونية للفحص القسري.

الحظر والإلغاء (أواخر القرن 19 وأوائل القرن 20):

  • أصبحت سياسات التنظيم هدفًا للجماعات النسائية والدينية.
  • تم حظر بيوت الدعارة في نهاية المطاف في عام 1901.
  • تم التخلي عن الفحص القسري للمومسات في عام 1906.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال