بحيرة زيما: سبخة الملح ومزار الوليّة الصالحة - تعميق التحليل
تُعد بحيرة زيما، الواقعة في منطقة أحمر بمدينة الشماعية، ظاهرة جغرافية واجتماعية مثيرة للجدل والدراسة، حيث تتشابك الحقائق الجيولوجية والتاريخية مع نسيج غني من المعتقدات الشعبية والأساطير المحلية. هذه السبخة الملحية، التي تُشكل معلمة طبيعية بارزة، تتجاوز وظيفتها كمصدر اقتصادي لاستخراج مادة الملح لتتحول إلى موقع ذي دلالة روحية عميقة.
1. زيما ككيان جيولوجي: شهادة الزمن الغابر
تُعد بحيرة زيما في جوهرها سبخة (Sebkha) نموذجية، وهي مسطح واسع من الأرض المسطحة والمالحة تتجمع فيه المياه السطحية والجوفية قبل أن تتبخر مخلفة وراءها طبقات سميكة من الأملاح والمعادن.
أ. الأصول السحيقة والتكوين الجيولوجي:
إن الإشارة إلى أن تكوين البحيرة يعود إلى الزمن الجيولوجي الثاني (الميزوزوي) تُعطيها بُعداً زمنياً هائلاً. هذا الزمن، الذي يمتد لملايين السنين، شهد تغيرات مناخية وتكتونية جذرية أدت إلى نشوء بيئات رسوبية غنية بالملح نتيجة لتبخر البحار القديمة أو المسطحات المائية الداخلية. هذه الأصول العميقة تؤكد حقيقة مادية بسيطة: زيما هي تكوين طبيعي بحت ناتج عن العمليات الجيوفيزيائية على مدى عصور، لا علاقة له بأي كيان بشري أو خوارقي.
ب. الوظيفة الاقتصادية والواقعية المادية:
يُشكل استغلال مادة الملح المستخرجة من هذه السبخة وظيفتها الأساسية والملموسة. تاريخياً، كانت السباخ مصادر حيوية للملح، الذي كان سلعة ثمينة وضرورية لحفظ الأغذية. هذا الدور الاقتصادي يُثبّت البحيرة في الواقع المادي كموقع إنتاجي، حيث تُستخرج منها مادة حيوية تعتمد عليها المنطقة. ومن هذا المنطلق، تُقدم المصادر التاريخية والتكوين الجيولوجي قراءة واضحة ومباشرة: زيما معلمة جغرافية ذات قيمة اقتصادية.
2. زيما ككيان أسطوري: تجسيد لالة زيما
في تناقض صارخ مع المادة والمنطق، تحوّل الخيال الشعبي بحيرة زيما إلى "لالة زيما"، وهي أيقونة روحية تجاوزت حدود الموقع الجغرافي.
أ. الرمزية الإنسانية للخصوبة والعطاء:
لقد ألبسها المخيال المحلي ثوب المرأة الصالحة والوليّة المباركة. واقترانها بـ"العطاء والخصوبة" يُشير إلى دمج وظيفة السبخة المانحة للملح (العطاء المادي) في صورة أنثوية مانحة للحياة (الخصوبة). هذا التحويل هو آلية ثقافية شائعة لتأنيث الطبيعة وجعلها أكثر قرباً وملازمة لمفاهيم الحياة والبركة. هذا الاعتقاد متجذر بعمق لدى الكثير من سكان مدينة الشماعية ومنطقة أحمر الذين يصرون على أنها وليّة من أولياء الله الصالحين.
ب. المزار الموهوم ونخلة الأماني:
على الرغم من أن القبر غير موجود أصلاً، إلا أن تخصيص مكان لها تحت نخلة ضخمة يُعتبر دليلاً على قوة الاعتقاد. النخلة، التي "ناطحت بسعفها السماء"، هي رمز للشموخ، الصبر، والاستمرارية في الثقافة الصحراوية، مما يضفي قدسية بصرية على المزار. يُصبح هذا الموقع المحور الروحي الذي تجري حوله طقوس التبرك.
3. طقوس الزيارة: سيميائية التخلي وجلب الطالع
تُعد الطقوس الممارسة في مزار لالة زيما الأكثر إثارة للتفصيل، كونها تحمل دلالات نفسية واجتماعية عميقة.
أ. طقس التخلي عن سوء الحظ (ملابس النساء الداخلية):
إن عملية زركشة الأغصان بملابس داخلية لنساء وفتيات هي طقس ذو رمزية عالية. إن ارتداء الملابس الداخلية هو أقرب ما يكون للجسد وأكثر ما يُخفيه، وبالتالي فإن التخلي عنها في هذا المكان المقدس يُفسر على أنه:
- التطهير الرمزي: التخلص من الرداء الأقرب للذات هو تخلص من النجاسة أو العوائق النفسية.
- مبادلة الحظ: الاعتقاد بأن ترك هذه القطعة في حوزة الوليّة (لالة زيما) يضمن نقلة نوعية من "سوء الحظ" إلى "حسن الطالع"، حيث تُباركه الزيارة وتضمنه الوليّة.
ب. الإضاءة والدعاء كفعل إيمان:
تتعدد الزيارات إلى هذا المكان بشكل دوري، ويسود الليل طقس إضاءة الشموع حول النخلة. الشمعة ترمز إلى النور، إزاحة الظلام، وتلبية الأمنيات. إن رفع الدعاء باسم لالة زيما هو اعتراف صريح بسلطتها الروحية وقدرتها على التوسط أو تحقيق المراد. هذه الطقوس تُرسخ المكان كملاذ نفسي يلجأ إليه الأفراد طلباً للعزاء أو التغيير في حياتهم.
الخلاصة: تناقض الحقيقة المادية والقوة الروحية
في الختام، تُشكل بحيرة زيما حالة دراسية ممتازة لتداخل الحقيقة المادية (سبخة ملح جيولوجية) مع الحقيقة الثقافية/المعتقدية (وليّة صالحة). إن التوتر القائم بين ما تقوله المصادر التاريخية والتكوين الجيولوجي وما يعتقده السكان المحليون هو ما يُغني المشهد ويُبقي بحيرة زيما حية، ليس فقط كمركز لاستخراج الملح، بل كأيقونة شعبية تُجسّد آمال وتطلعات الناس.
