إعداد الشريف حسين على الصعيد الداخلي للثورة ضد العثمانيين.. التقارب مع ممثلي الحركة العربية والمشاركة في الحملة على قناة السويس

عمد الحسين ـ وبعد ان قطعت مفاوضاته مع الانكليز شوطا مشجعا ـ الى التخطيط للقيام بوجه الدولة، واخذ ينسق مواقفه منها بما يتساير واستعداداته التي انجزها في هذا السبيل، إبتداءاً من الاشتراك في الحملة على قناة السويس حتى اعلان الثورة.

فمع ما ابداه من الموافقة في الاسهام بالحملة الاخيرة، فإنه لم يكن جادا في ذلك، واستغل بعض الحجج لايقاف نجله الامير علي بينما كان يواصل سيره مع قواته الى سورية برفقة قوات وهيب باشا للانضمام الى الجيش المتوجه الى القناة بقيادة جمال باشا أما ارجاع هذا الموقف الى اكتشاف الحسين لبعض المراسلات الجارية بين وهيب باشا والعاصمة بشأن خلعه من منصبه، فيكاد يبدو امرا ثانويا، رغم دوره في تعميق الهوة بينهما.

إذ أن الحسين لم يكن جاهلا بنوايا الاتحاديين تجاهه، ومن هنا لا يبدو سلوكه الأخير الا جزءا من الخطة التي بدأ ينسج خيوطها الأولى سيرا مع تطور مفاوضاته مع الانكليز.

ومما زاد في قناعة الحسين لمواصلة خطواته هذه، التقارب الذي تم له مع ممثلي الحركة العربية المتمثلة في الجمعيات العربية في سوريا. وكانت هذه ـ وبحكم ظروفها الصعبة وامكانياتها القليلة ـ قد لجأت الى التعاون مع الكيانات السياسية القائمة في الجزيرة العربية للوقوف في وجه الاتحاديين وتحقيق الاهداف التي رسمتها.

وحصل أن استغلت جمعية (العربية الفتاة) سفر احد اعضائها (فوزي البكري) الى الحجاز وحملته رسالة خاصة للشريف ضمنتها استعداد العرب في سوريا والعراق القيام بوجه الاتحاديين والحصول على الاستقلال، والاستفسار عن استعداده لقيادة الثورة، ورغبتهم في اجراء الاتصالات بهذا الشأن.

ومع ارتياحه لهذه الدعوة، كان الشريف حذرا في موقفه، تحسبا منه في احتمال تسوية خلافاته مع الاتحاديين. ولدارسة الأمر مليا بعث بنجله فيصل إلى الآستانة بمهمة ظاهرها التباحث مع الحكومة، وواقعها التعرف عن كثب على واقع نشاط القوميين العرب وإمكانياتهم المتوفرة ، في وقت يثبت فيه ـ من وراء هذه المهمة ـ ولاءه للدولة وارتباطه بالمركز.

وقد التقى فيصل بزعماء جمعيتي (العهد) و (العربية الفتاة) عند وصوله الى دمشق في 26 آذار 1915، واتضح له عزمهما للانفصال عن الدولة، وانضم بعدها الى عضويتهما، غير انه ـ ورغم الاستعداد الذي ابداه القوميون، وتأهب الفرقة العسكرية المرابطة هناك لتحمل المسؤولية ـ لم يكن واضحا في موقفه، وتذرع بانقسام الراي العام على نفسه، فضلا عن التكهنات السائدة حول انتصار المانيا، وفي كونه غير مخول بأكثر من استعراض الوضع السياسي، واخيرا عدم ترجيحه لفكرة الثورة دون إسناد احدى الدول الكبرى.

بيد أن هذا التردد الذي ابداه فيصل تحول، الى موقف ايجابي بعد عودته من الآستانة.
ويبدو أن للانطباعات التي اخذها عن الأوضاع العسكرية القلقة هناك، اثرها في ذلك، حيث انتهى مع اعضاء الجمعيتين والفئات المساندة الأخرى من مشايخ ووجوده الشام الى اتفاق كامل لمباشرة العمل.

وتسلم منهم ميثاقا اتفقوا عليه اثناء وجوده الأخير في الآستانة، تضمن الشروط التي اعتقدوا بضرورتها للاتفاق مع بريطانيا.

يمثل ميثاق دمشق محاولة من قبل القادة العرب للحفاظ على استقلال اقطار المشرق العربي، نتيجة ادراكهم اطماع كل من بريطانيا وفرنسا في المنطقة، كما ان اهميته لم تكن تقتصر على ما تضمنه من شروط، بل لأنها استخدمت من قبل الشريف في مفاوضاته مع السير مكماهون، باعتبار مطاليب العرب واهدافهم.
ولعل أبرز نقطتين اوردتهما الوثيقة هما استقلالا كاملا بعيدا عن اي تدخل اجنبي، ثم التحالف مع بريطانيا.

عاد فيصل الى مكة في20 حزيران ـ بعد مقابلته لجمال باشا في القدس واثباته للاخير ولاءه وولاء عائلته للدولة ووعده بالعودة الى دمشق على رأس (1500) متطوع  وبوصوله مكة قدم لوالده تقريرا عن رحلته بما في ذلك قناعته التي تبرر القيام بالحركة  وقد تدارس الحسين مع ابنائه جوانب الوضع، في اجتماع عقده في الطائف للتعرف على آرائهم، بدا فيه فيصل ـ رغم قناعته بالحركة ـ أكثر تأنيا من اخيه عبد الله، رآى عدم الاقدام على الحركة ما لم تتم المفاوضات مع بريطانيا، أو عند تعرض الدولة العثمانية لانتكاسة قوية أو لحين انزال قوات من الحلفاء في الاسكندرونة  بينما اكد عبدالله الاسراع في تنفيذ المشروع واتهم فيصل بالتلكؤ والجبن.

فنتيجة الحرب لديه واحدة وسيبقون تحت حكم المنتصر، ورغم هذا الخلاف فقد اتخذ الوالد ـ ومع اقراره الثورة ضمنيا ـ موقفا وسطا فارتآى ارسال فيصل الى سورية ابعادا للشك خصوصا وان الأخير قد وعد جمال بالعودة الى دمشق كما تقدم، بينما عمد الى فتح المفاوضات مع بريطانيا لضمان خطواته القادمة في تنفيذ المشروع، ومن هنا جاءت رسالته الأولى الى السير مكماهون في تموز 1915، فكانت فاتحة المراسلات المعروفة بمراسلات حسين ـ مكماهون.

وخلال هذه الاتصالات اخذ الاتحاديون ـ وبعد انتصارهم في الدردنيل واحتمال انسحاب الجيش البريطاني عن مدينة الكوت، يفكرون في مهاجمة القناة مجددا ـ بعد فشل الحملة الأولى كما تقدم، الأمر الذي حتم على الحسين ـ وتكتماً على اتصالاته ـ مجاراة تأكيدات جمال باشا في إرسال المتطوعين للاسهام في الحملة الثانية، وبعث بنجله فيصل على راس قوة طليعية تقدر بخمسين رجلا، وبوصوله دمشق اتخذ فيصل دار جمال باشا قصرا له للعمل على تجهيزات قوات المتطوعة التي يفترض ارسالها الى الشام.

لقد كان الحسين صائبا في استجابته لدعوة جمال ولم يكن ذلك تلبية لتأكيدات الأخير فحسب، وانما اراد منها، كما يبدو، الحيلولة دون تقدم الاتحاديين بمطالب جديدة، بينما يواصل هو استعداداته بحرية اكبر، على ان لا تكون سببا يعرض نجله فيصل والحركة في سورية الى الخطر.

وفي ضوء ذلك، بعث بنجله الامير علي الى المدينة لحشد القبائل والتشاور معهم بأمر الثورة، فضلا عن مراقبته لتحركات الوالي العثماني، بينما لازم عبد الله والده طيلة الستة اشهر التي استغرقتها المراسلات مع مكماهون، يعينه على الشؤون السياسية ، وتنظيم قبائل الطائف ومكة لاستخدامها عند الضرورة.

لكن تطور الأحداث في سورية جاء مخيبا لآمال الحسين بسبب السياسة القمعية التي اتبعها جمال باشا ضد العاملين في القضية العربية، واعدامه العديد منهم  فضلا عن تشتيته للقطعات العسكرية العربية المرابطة في سورية ـ التي كانت محط الاعتماد لتنفيذ الحركة، لما كانت تضمه من اعضاء جمعية العهد ـ واحلاله القوات العثمانية بدلها بالاضافة الى ترحيله العديد من وجوه ورجالات الشام الى الخارج.

ومن هنا اصبح الحجاز مكانا لاعلان الثورة بدلا من سورية التي لم يبق فيها سوى بعض القادة الثانويين ، ولعل هذا ما يتضح من خلال التقارير التي كان يبعثها فيصل لوالده عن تردي الأوضاع في سوريا.

وعلى اية حال فإن الشريف وبعد ارتكانه للوعود والتعهدات البريطانية، اخذ يفتش عن فرصة مناسبة للاعلان عن مآربه محاولا إثارة الخلاف مع الحكومة في هدف مواجهتها واستغل دعوة انور باشا له بإعلان الجهاد لطرح مطالبيه كشرط لتأييده هذه الدعوة.

ومع انه كان يهدف الى تحقيق مطالبه بالدرجة الرئيسية، فإنه وضع في مقدمتها العفو عن المتهمين السياسيين من الزعماء العرب، ومن ثم إقامة نظام لا مركزي في سورية والعراق، عرج بعدها الى هدفه الشخصي في جعل الامارة وراثية في عائلته بكافة الحقوق والامتيازات القديمة، واعدا ـ اذا ما اجيب طلبه ـ بإرسال نجله فيصل للاسهام في جبهات العراق وفسلطين، والا فلا مجال له سوى الدعاء للدولة بالتوفيق والنصر في ذات الوقت الذي تعمد فيه الامير علي  إثارة المشاحنات مع محافظ المدينة بصري باشا، الذي لم يتوان بدوره في إبلاغ جمال باشا بذلك وتدخل الامير في الشؤون الحكومية  ليتلقى فيصل تنبيه واستنكار الباشا عوضا عن اخيه، في الوقت الذي تلقى والده التنبيه ذاته من جمال، فيما امر الأخير بصري باشا بردع الامير علي عند حده.

اما عن المطاليب التي تقدم بها الشريف فقد واجهت استنكارا شديدا، فأبرق انور باشا محذرا، ورفض كل مطاليبه كما طالبه بسحب الامير علي من المدينة، وارسال المتطوعين ليكونوا تحت قيادة فيصل الذي سيظل ضيفاً على الجيش الرابع حتى انتهاء الحرب، فيما تلقى الحسين انذارا مماثلا من جمال باشا تضمن التأنيب والتحذير.

إلا أن الحكومة العثمانية ولإصرار الحسين على موقفه، ولاقتناعها بوجود حركة ما ينوي القيام بها اضطرت الى معالجة الأمر وقتيا وأوعزت لجمال للتباحث مع فيصل بشأن المعتقلين السياسيين، على ان يباشر والده بإرسال المتطوعين.

وليتمكن من انقاذ فيصل من قبضة جمال ـ وبعد الذي لمسه من برقية انور باشا التي أشار فيها ببقاء فيصل في سورية مدة الحرب ـ تظاهر الحسين بإرتياحه وشكره لموقف الحكومة الأخير واستعداده لإرسال المتطوعين شريطة عودة فيصل الى المدينة لقيادتهم بحجة رفضهم السفر دون قيادته لهم.

وقد وافق جمال باشا على ذهاب فيصل لإتمام مهمة جمع المتطوعين والمجيء بهم، فترك فيصل دمشق في 16 مايس 1916 ولم يعد اليها الا بعد عامين على رأس القوات العربية بعد اخراج القوات العثمانية منها.

لم يكن جمال جاهلا ـ كما يبدو ـ بالتحركات المريبة التي كان يديرها الحسين وقد عبر عن ريبته لعلائم الفرح التي بدت على فيصل عند سماحه له بالسفر، هذا فضلا عن التقارير التي كان يتسلمها من بصري باشا عن تحركات الشريف وضرورة القبض على نجليه علي وفيصل، اضافة الى ما كانت تشيعه جريدة الطان التركية عن الحسين وتواطئه مع الانكليز واتصالاته بهم منذ كانون الثاني 1916.

لكن جمال باشا ورغم قدرته على احباط مساعي الحسين حينها كان يرى اتباع خطة معينة لتقرير الخطوات اللاحقة، خصوصا وانه ما زال يفتقر الى الوثائق التي تدينه، كما ان الحكومة لم تكن راغبة في اتخاذ مثل هذه الاجراءات وحتى انها طالبت بعدم مضايقة فيصل أو التعرض له.

كما جاء في تعليماتها لبصري باشا  ولم تعتقد بصواب هذه الخطوات في مثل هذه الظروف، خصوصا وان تصوراتها عن الحركة فيما لو وقعت لم تكن بذلك الحجم الذي صارت عليه.

غير ان اقتراب شكوكها من الصحة دفعت برجالها (جمال باشا) الى الاحتراس والحذر، بعد توارد اخبار المدينة عن تحركات الشريف، فأصدر جمال اوامره في أواخر نيسان 1916 بإيقاف القوات العثمانية ـ المتجهة الى اليمن ـ في المدينة، والمباشرة في تدريب قوات المدينة وتسليحهم بالاسلحة التي يفترض تسليمها للمتطوعة، كما امر بمراقبة كل من الاميرين فيصل وعلي وذلك عقب الاخبار التي نقلها بصري باشا عن الكمائن التي نصبتها العشائر الموالية للحسين في طريق القوات المتجهة الى اليمن.

ومضى جمال في استعداداته وبعث بأحسن قادته (فخري باشا) برفقة تعزيزات عسكرية ليتولى مع بصري باشا مهمة الدفاع عن المدينة، في الوقت الذي وضع فيه قوات أخرى على اهبة التوجه الى المدينة.

ومع ذلك فإن جمال باشا لما يزل يأمل استدراج الشريف ولو وقتيا ولم يمتنع من مسايرته وامر حاكم المدينة بتسليمه المبالغ التي طلبها لسد نفقات المتطوعين، وبدا وكان الجو هادي فتبودلت الزيارات والولائم بين فخري باشا وكل من فيصل وعلي كما يتضح من تقارير الاول الى قائده وجمال باشا.
غير أن الهدوء كما يبدو كان يخفي وراءه احداثا أخرى.

سارع الشريف بتنفيذ خطواته الاخيرة، ولعل تسرعه في الانتفاضة قبل موعدها المقرر في آب يعود الى جملة عوامل منها اولا ـ خشيته من حملة اليمن، وثانيا تخوفه من اكتشاف السلطات العثمانية لمفاوضاته مع الانكليز والزعماء العرب، خاصة بعد تعرض قسم من هؤلاء الى بطش جمال باشا، واخيرا مخاوفه من افشال فخري باشا ـ المعروف بشكيمته ـ لخططه، بعد ان عهدت إليه قيادة حامية المدينة  لهذا سارع الحسين بابلاغ نجليه في المدينة بخطوته هذه وطالبهم بتحديد موعد للبدء بالعمل، وقد اتفق الاخوان مع والدهما ـ وبعد اتفاقهما مع عشائر المدينة ـ على ان يكون 5 حزيران موعدا لحركاتهما في المدينة.

فيما أبلغ الحسين الجهات البريطانية بذلك القرار عن طريق نجله عبد الله ـ حيث ابرق الأخير الى القاهرة في 23 مايس يطلب فيها حضور ستورس وبينما كان هذا في طريقه الى جدة ابلغ بموافقة وزارة الخارجية على منح الامير عبد الله 10 آلاف جنيه و 50 الف أخرى لوالده بعد ان يتم القيام بالحركة بصورة مؤكدة.

وفي الاجتماع الذي تم بين ستورس والامير زيد وابن عمه الشريف شاكر ـ ممثلين عن الحسين ـ طالب الأخير في رسالته التي نقلها زيد بإرسال (500) بندقية واربعة مدافع بكامل ذخيرتها لحاجته الماسة فيما ناشد عبد الله في رسالته هو الآخر بضرورة الاسهام العسكري البريطاني في سورية بأسرع واقوى ما يمكن.

وأضاف زيد الى هذه المطاليب مبالغ من المال قدرت بـ (70) الف جنيه  ومع استثقال ستورس لهذا المبلغ ـ وبأن ما يمكن دفعه هو (50) ألفا عند بدء الحركة ـ فإنه عدل عن رأيه حال ابلاغ زيد له ببدء الحركة، وتعهد باستعداد الحكومة لدفع كل ما تحتاجه، فيما اعتذر عن طلب الامير عبد الله السابق بعد تأكيد الامير زيد له، لكونه من الامور الخاصة بمجلس الحلفاء الاعلى فضلا عن كونه (ستورس) من غير العسكريين.

وعلى اية حال فإن الشريف كان قد تورط منذ 2 حزيران حينما شرع نجلاه فيصل وعلي بحركاتهما في ضواحي المدينة واخذا بحشد القوات والمعدات  وبانتهائهما من ذلك اجتمعا في صباح 5 حزيران عند قبر حمزة ومن حولهما ( 1500) مقاتل واعلنا باسم والدهما الثورة على الدولة العثمانية، تحركت بعدها قواتهما الى جنوب شرقي المدينة حيث المكان المتفق عليه لبدء العمليات  بينما راح الامير عبد الله يتولى مهامه في الطائف واخذ يستكمل استعداداته امام انظار الوالي غالب باشا الذي لم يدر بخلده ـ رغم ارتيابه بالامر ـ ان تأخذ الأحداث مجراها الذي صارت عليه.

واخيرا انهى الشريف كل احتمالات التفاهم مع الاتحاديين في 9 شعبان 1334/10 حزيران 1916م، حينما اطلق الرصاصة الأولى للثورة من شرفة داره إيذانا بإعلانها، لتبدأ من مكة وتستمر طوال عامين اكتسحت فيها القوات العربية ـ تدعمها مساعدات الحلفاء ـ معظم مواقع الجيش العثماني في الحجاز، واسهمت بشكل فعال الى جانب قوات الحلفاء في احتلال الشام ودخول دمشق سنة 1918م.

ليست هناك تعليقات

جميع الحقوق محفوظة لــ وريقات 2015 ©