تدهور العلاقات بين الحسين بن علي والاتحاديين الأتراك عند قيام الحرب ع1.. سياسة الاتحاديين المركزية كانت تسير بشكل مناهض لآمال الحسين إضافة الى تعارضها مع القبائل البدوية

أظهر الحسين منذ وصوله الحجاز في تشرين الثاني 1908 نزعته المعارضة للسياسة المركزية ـ التي هدف الاتحاديون تطبيقها في الحجاز كغيره من الولايات الأخرى ـ رغم تحرسه الافصاح عنها بشكل صارخ.

وشرع يسعى ـ يدفعه طموحه ـ لتثبيت مركزه وسيادته في البلاد.
ومع انتباه السلطات العثمانية لهذه التحركات، فلم تتعد اجراءاتها بعض المضايقات والتنبيهات الوقتية خصوصا وان النزاع لم يكن بتلك الدرجة من التوتر.

بيد ان الاتحاديين ـ ولتطور اتجاه الحسين المعارض لسياستهم (المركزية)، التي شرعوا بالتشديد في تطبيقها منذ عام 1913، أو بعد انتهاء حرب البلقان 1912ـ 1913 ـ حاولوا الضغط على الحسين، أو عزله اذا اقتضى الأمر، وبعثوا ـ ولتنفيذ قانون الولايات الجديد لعام 1913 ـ بالوالي وهيب باشا المعروف بصرامته وتحسمه لمبادئ جمعية الاتحاد والترقي ـ وجمعوا بيده السلطتين التنفيذية والإدارية، بعد ان زود بعدد من القوات، مع تعليمات بإضعاف ما للشريف من نفوذ والقبض عليه اذا استوجب الأمر، وإلغاء امتيازات الحجاز المحلية التي يتمتع بها منذ السابق بسبب وضعه الاقتصادي والجغرافي والديني، وجعله ولاية عادية، والعمل على تطبيق قانون الولايات الجديدة، فضلا عن المباشرة في مد خط السكة الحديدية من المدينة الى مكة.

وطبيعي أن تكون لهذه الاجراءات نتائجها السلبية، اذا علمنا ان الحجاز كان معفواً من الضرائب والخدمة العسكرية ـ التي يتضمنها قانون الولايات ـ لفقره ومكانته الدينية، فضلا عن المشاكل الناجمة عن اضعاف الشريف المتعارف عليها منذ السابق  وطبيعي أيضا أن يفسر تعيين الوالي الجديد كتغيير في السياسة العثمانية، خصوصا وان الحسين كان يحتفظ بعلاقاته الودية ببعض الولاة السابقين  فتحتم النزاع مع الوالي الذي لما تمض على مقدمه عدة أيام، وبعد ان تيقن الحسين من نوايا الدولة خاصة وانه كان يطلع على المراسلات المتبادلة بين الوالي والاستانة أحيانا.

استفز الحسين من طلب الوالي القاضي بتجهيزه (100) بندقية لتسليح حرسه ورفضه مرتين باعتباره اهانة لمكانته، فكان ذلك ذريعة لاشعال كوامنها، فيصطدم الطرفان ويسقط عدد من القتلى والجرحى، فيما وصل وهيب باشا في تنفيذ ما اوكل اليه وشرع بالتدخل في صلاحيات الشريف وإناطة احكام داخلية البلاد بالحكومة والاشراف على شؤون البدو، واعلن ان الشريف حيدر مستعد لتنفيذ الاوامر الحكومية اذا ما رفض الحسين ذلك والواقع ان المعارضة لم تقتصر على الشريف واتباعه، بل عمت أكثر سكان المدن الرئيسية وولدت جوا من الفوضى زاد من حدته تصلب الوالي الجديد  ولعل الاسناد الشعبي الذي دعم موقف الحسين ازاء السياسة الجديدة للدولة ـ يرجع الى اتفاق مصالح الطرفين في اتخاذ موقف موحد حيال اي تغيير من شأنه الضرر بما يتمتع به الحجاز من الامتيازات التي نوهنا عنها، ومن هنا جاء التفاف الناس حوله واحتجاجهم ضد السياسة الجديدة، فاجتمع الشريف بالوالي ونصحه بالكف عما جاء من اجله، وضرورة احتفاظ الحجاز بحقوقه القديمة، في نفس الوقت الذي ابرق فيه الى الآستانة مؤكدا طلبه هذا، وشكواه للاوضاع القلقة الدائرة في الحجاز.

استمر الوضع على حاله، وانتشرت الفوضى بتزايد عمليات السطو والنهب التي شرعت قبائل البدو بممارساتها في الطرق المؤدية الى المدن، وأضحت هذه الحوادث تتكرر يوما فآخر.

ولم تنفع الشكاوي التي كان يرفعها وجهاء البلد الى الحكومة، ومع ان الوالي ـ ولتلمسه خطورة الوضع ـ قدم اعتذاره للحسين آملا في تسوية الأمر ولو وقتيا فإن الأخير تجاهل ذلك رغم توجيه نجله فيصل لتأديب البدو الذين كانوا سببا للاضطرابات في جهات جدة.

وفي الوقت الذي عجز فيه وهيب باشا عن فتح الطرق القائمة بين المدن الرئيسية وتأمينها من القبائل البدوية، وجد نفسه مضطرا للعمل في ازاحة الحسين عن منصبه وفاتح حكومته لاسعافه بقوات اضافية لتنفيذ المهمة، واستجابت الحكومة لتقرير الوالي، وشرع طلعت باشا لتنفيذه، لولا تدخل الصدر الاعظم (سعيد حليم) في الأمر وتحذيره من مغبة هذه الخطوة واقترح ارسال جماعة ثانية، إلا أن فشل الاساليب الاخيرة دفع بأنور باشا هذه المرة للتدبير في خلع الحسين، وذلك بإرسال فرقة عسكرية من ازمير تتولى هذه المهمة، لكن الجماعات التي كانت تساند الحسين في الآستانة تصدت لهذه الخطوة من جديد، فاعترض عليها محمود باشا الشركوصلي  وزير الحربية ولم يتوان في ابلاغ الصدر الاعظم بما عزم عليه انور باشا، فجرت على الاثر بعض الاتصالات بين هذه الاطراف حتى انتهت بتخلي الحكومة عن قرارها الأخير، بعد ان نبه الصدر الاعظم المسؤولين، الى امتناع فرنسا عن دفع الـ(3.500.000 ليرة) التي تعهدت بإقراضها، ساعة تحققها من عزم الحكومة العثمانية في صرفها على حركات عسكرية جديدة.

فاضطرت الاخيرة إلى إنهاء التوتر القائم مع الحجاز، واكد الصدر الاعظم ببرقية للشريف على احتفاظ الامارة بحقوقها، وتأني الحكومة حاليا في تنفيذ مشروع مد الخط الحديدي الى مكة.

كان الامير عبد الله هذه الاثناء في القاهرة في طريقه الى الآستانة، وبوصوله اليها، اجرى فيها عدة اتصالات مع المسؤولين ـ اوضح خلالها ـ وبالذات في اجتماعه مع طلعت باشا ـ خلاف والده والحكومة، ورده الى الادارة السلطانية الرامية الى اضعاف مركز والده من خلال اضعاف مكانة الحجاز واخضاعه للإجراءات المتبعة في الولايات الأخرى، خلافا لما يراه والده من الحفاظ على القديم. مؤكدا (عبد الله) هدف والده في خدمة الدولة، وضرورة اسنادها له  اما معارضة والده لمشروع مد الخط الحديدي الى مكة، فرده الى الاضرار التي سيلحقها المشروع بالقبائل التي ترتزق على مزاولة مهنة النقل في هذه الطرق بواسطة الجمال، وعملهم أيضا كأدلاء ومطوفين اثناء موسم الحج.

ومع صحة التبرير واهميته فإن موقف الحسين انما جاء لكون المشروع نذير شؤم يهدد بزوال شرافته، اذ ان ايصال الخط لسكة سيسهل بالتأكيد اي جهد تركي لاخضاعه، ولا يعدو تبريره لموقفه أكثر من كونه محاولة لعرقلة الجهود الرامية لتنفيذ المشروع وابعاد الحجاز عن اي سيطرة مباشرة.

وعلى اية حال فإن كلا من انور وطلعت باشا ـ ورغم الوعد التوفيقي الصادر عن الصدر الاعظم بتأجيل المشروع ـ امسيا أكثر اصرارا على تنفيذ المشروع.

وقد ابدى طلعت لعبد الله ـ وبحضور الصدر الاعظم ـ استياء من اوضاع الحجاز، واصراره على مد الخط الحديدي الى مكة والى كافة مدن الحجاز، منذرا بالعواقب المترتبة على مخالفة الاوامر  وعرض شروط الاتفاق مع والده لمباشرة العمل:
1- يحصل الشريف على ثلث دخل المشروع وهو حر التصرف به.
2- تكون الامارة له ولأولاده من بعده مدى الحياة.
3- وضع قوة كافية تحت امرة الشريف لتنفيذ المشروع.
4- واخيرا وضع ربع مليون جنيه تحت تصرف الشريف لانفاقها على العربان والبدو.

رفض الحسين هذا المشروع ريبة منه بنوايا الاتحاديين، والنتائج المترتبة على موافقته وبرر رفضه، في عده هذا العرض رشوة لا يمكن قبولها  وكمحاولة لمعالجة الموقف والرد على المقترحات الاخيرة عقدت اسرة الشريف اجتماعا عائليا ناقشت فيه جوانب المشكلة.

وقد رآى عبد الله امكانية استقلال الحجاز بمساعدة الوحدات العربية الموجودة في سوريا والعراق، فضلا عن تأييد بريطانيا الدبلوماسي.

واقترح أيضا خطة أخرى لابعاد والده عن الضغوط الحكومية، مفادها، اعتقال الحجاج في موسم الحج والمساومة بهم مع الدول الكبرى ـ بحكم مسؤوليتها على رعاياها من الحجاج ـ اذ سيكون والده مستعدا لاطلاق سراح الاخيرين، اذا ما استجابت له هذه الدول في الوقوف جانبه امام ضغوط الدولة العثمانية في المستقبل.
غير ان الفكرة لم تحظ بقناعة اخوية (علي) (وفيصل) فما زالت الدولة برأيهما تحتفظ بإمكانياتها وقدراتها.

ومع ذلك فإن الفكرة لم تنته كليا، وقد تم تبنيها في عام 1915/1916 عندما استحال التفاهم مع الآستانة.

وفي هدف تأخير اجابته على مقترحات الدولة الاخيرة، عمد الحسين الى الاسابيب التوفيقية والوقتية، فهو خادم الدولة ـ ردا على الاقتراحات ـ وأحد موظفيها، الا انه لا يريد إلحاق الضرر بالقبائل الساكنة... وراح وبعث بنجله عبد الله لتأديب بعض القبائل، بدلا من إيفاده ـ كما يفترض ـ الى الآستانة لنقل مقترحاته بشأن المشروع، حتى اضطر ـ وتحت ضغط الحكومة ـ الى ارساله الى الآستانة فوصلها في 30 حزيران 1914، في وقت امست فيه هذه المشادات جانبية، اذ لم يمض على مقتل ولي عهد النمسا أكثر من يومين، واضطرت الحكومة ـ لاندلاع الحرب واحتمال اشتراكها في جانب المانيا ـ الى تأجيل المشروع، وامر عبد الله بالرجوع الى الحجاز المتطوعة في هدف اسهامهم في القتال  لقد كان الهدف الرئيسي من سياسة الحسين هو تقوية امارته وتوسيع اقليمها، حتى انه عمد ـ ولتنفيذ ذلك ـ الى استخدام الاسلام كأيديولوجية لسياسته حينما نفذ اوامر الحكومة في ضرب السيد محمد علي الادريس حاكم عسير، غير ان سياسة الاتحاديين المركزية كانت تسير بشكل مناهض لآمال الحسين، اضافة الى تعارضها مع القبائل البدوية، التي كان بإمكان الحسين من اكتسابها ـ رغم مضايقته لها احيانا ـ وتوجيه نشاطهم ضد الدولة، فكانت النتيجة الحتمية، هي النزاع المستمر بينه وبين الحكومة.

اتضح فشل الاتحاديين في اضعاف نفوذ الحسين أو ازاحته ولعل ذلك يرجع بالدرجة الرئيسية الى مشاكل الدولة الخارجية التي اضطرتها الى التماهل مع الشؤون الداخلية  فضلا عن المقاومة التي كان يبديها سكان الحجاز ـ وبالذات القبائل ـ لسياسة الاتحاديين الجديدة، ثم مكانة الحسين لدى بعض الشخصيات التركية القديمة (المحافظة) وتعاطفها معه  في وقت كان فيه الاتحاديون عاجزين في الاستغناء عن هذه الجماعات كليا.

وهذا ما كان يدركه الحسين جيدا ومن ان سكوت الدولة عنه ـ احيانا ـ انما هو سكوت مؤقت وامهال منها لا اهمال.

ليست هناك تعليقات

جميع الحقوق محفوظة لــ وريقات 2015 ©