1. البدايات التاريخية: كلية غردون التذكارية (1905)
لم يأتِ قسم هندسة المساحة في صورته الحالية من فراغ، بل هو تتويج لمسيرة تعليمية بدأت في وقت مبكر جداً. ففي عام 1905، ومع إنشاء كلية غردون التذكارية، بدأ تدريس علم المساحة كبرنامج مهني. كان الهدف هو تخريج فنيين مؤهلين للعمل في مهام المسح الأراضي والمشاريع الهندسية البسيطة التي كانت تتطلبها الإدارة في ذلك الوقت. كان هذا البرنامج لا يستغرق سوى عامين بعد إتمام المرحلة الابتدائية (التي كانت تعادل ثماني سنوات دراسية)، مما يجعله أشبه بالتعليم التقني أو المهني الذي يركز على المهارات العملية الأساسية.
2. التحول إلى التعليم الأكاديمي: استجابة للتطورات التقنية
مع حلول منتصف القرن العشرين، ومع ظهور تكنولوجيا جديدة في مجال المساحة، أدرك القائمون على التعليم في السودان ضرورة رفع مستوى الدراسة من مجرد التدريب المهني إلى التعليم الأكاديمي المتكامل. ففي عام 1976، أُنشئ قسم هندسة المساحة في صورته الأكاديمية الحديثة داخل كلية الهندسة بجامعة الخرطوم.
كان هذا التحول استجابة مباشرة لثورة تقنية عالمية أثرت بشكل كبير على علم المساحة، مثل:
- الأجهزة الإلكترونية البصرية: التي حلت محل الأدوات الميكانيكية القديمة، مما زاد من دقة وسرعة عمليات القياس.
- نظم تحديد المواقع العالمية (GPS): التي مكنت من تحديد المواقع بدقة عالية باستخدام الأقمار الصناعية.
- الاستشعار عن بعد والصور الجوية والفضائية: التي فتحت آفاقاً جديدة في رسم الخرائط، ومراقبة التغيرات البيئية، واستكشاف الموارد الطبيعية.
تطلبت هذه التقنيات المتقدمة فهماً عميقاً للأسس النظرية في الرياضيات والفيزياء، وهو ما لم يكن ممكناً توفيره في برامج الدبلوم. لذا، جاء إنشاء القسم لمنح درجة البكالوريوس لضمان أن يكون الخريجون مؤهلين للتعامل مع هذه التحديات التقنية المعقدة.
3. بناء الكفاءات الوطنية عبر التعاون الدولي:
لضمان أن يكون القسم على قدم المساواة مع المعايير الدولية منذ البداية، تم تأسيسه بفضل تعاون مثمر مع جامعات بريطانية مرموقة، مثل جامعة نيوكاسل وجامعة جلاسجو.
- الاعتماد على الخبرات الأجنبية: في سنواته الأولى، استعان القسم بأساتذة من هذه الجامعات الشريكة.
- الاستثمار في الكادر الوطني: لم يكن الاعتماد على الكفاءات الأجنبية حلاً دائماً، بل كان خطوة أولى نحو بناء قدرات محلية. وبدعم من المجلس الثقافي البريطاني، قام القسم بابتِعاث عدد من خريجيه المتميزين إلى الجامعات البريطانية لإكمال دراساتهم العليا. عاد هؤلاء الخريجون ليصبحوا ركيزة أساسية في هيئة التدريس، مما أدى إلى توطين المعرفة والخبرة الأكاديمية.
4. الخريجون: بصمة في التنمية المحلية والإقليمية
تخرجت الدفعة الأولى من القسم عام 1981، ومنذ ذلك الحين، ترك خريجوه بصمة واضحة في مختلف القطاعات. يعملون في مؤسسات حكومية وخاصة في السودان، كما يتمتعون بسمعة ممتازة في الدول العربية، خصوصاً الخليجية، حيث يشغلون مناصب مهمة في شركات البترول، وشركات الإنشاءات، ووكالات المسح الجوي. كما استقر بعضهم في دول غربية مثل الولايات المتحدة الأمريكية وكندا، مما يؤكد جودة التعليم الذي يقدمه القسم وقدرته على تخريج مهندسين أكفاء على المستوى العالمي.
5. الهيكل الأكاديمي والمنهج الدراسي:
يضم القسم حالياً طاقم تدريس متخصص يغطي كافة فروع علم المساحة، بدءاً من المساحة الأرضية التقليدية وصولاً إلى نظم المعلومات الجغرافية والاستشعار عن بعد. كما يحرص القسم على التكامل مع الأقسام الهندسية الأخرى في الجامعة، حيث يستعين بأساتذة من أقسام مثل الهندسة المدنية والكهربائية لتدريس مواد أساسية مثل الهيدرولوجيا، وعلوم الحاسوب، والإلكترونيات، مما يضمن للخريج معرفة شاملة ومتكاملة تؤهله لمواجهة تحديات سوق العمل المتنوعة.