الجغرافيا بين التخصص الأكاديمي والضرورة التعليمية: مسار تطور إدراج المادة في مناهج المدارس الأوروبية من القرن التاسع عشر إلى مطلع القرن العشرين

تطور مكانة الجغرافيا في التعليم الأوروبي:

تُعتبر الجغرافيا بحق همزة وصل أساسية وضرورية بين حقول العلوم الطبيعية (مثل الجيولوجيا، والأرصاد الجوية، وعلم النبات) والعلوم الإنسانية والاجتماعية (مثل التاريخ، وعلم الاجتماع، والاقتصاد). هذا الموقع الفريد هو الذي أكسبها أهميتها التعليمية وقدرتها على تقديم منظور شامل ومتكامل لفهم العالم.


التسلسل الزمني لإدراج الجغرافيا في المناهج:

شهدت أوروبا مراحل مختلفة لتبني الجغرافيا كمادة تعليمية رسمية، حيث كانت البداية في قطاعات تعليمية محددة ثم توسعت تدريجياً:

  • المرحلة المبكرة (النصف الثاني من القرن التاسع عشر): في إنجلترا، كان التركيز الأولي على إدخال الجغرافيا في المدارس الابتدائية ومعاهد إعداد المعلمين. هذا يوضح أن الهدف كان في البداية يتمحور حول تأسيس المعرفة الجغرافية الأساسية وتوفير المعلمين المؤهلين لتدريسها.
  • تأخر التعليم الثانوي: لم يتم إدراج الجغرافيا في مناهج التعليم الثانوي في إنجلترا إلا في مطلع القرن العشرين. يُشير هذا التأخير إلى أن الاعتراف بالجغرافيا كمادة تخصصية تتطلب دراسة متعمقة استغرق وقتًا أطول ليترسخ في المراحل التعليمية المتقدمة.
  • الريادة الأوروبية: تجدر الإشارة إلى أن دولاً مثل فرنسا وألمانيا كانت أسبق من إنجلترا في ترسيخ الجغرافيا كـمادة تخصص يتم تدريسها بعمق أكبر وفي مراحل تعليمية مبكرة، مما عكس إدراكًا مبكراً لأهميتها الأكاديمية والاستراتيجية.


دور الجغرافيين في تشجيع التعليم:

لعب كبار الجغرافيين دورًا حاسماً في تعزيز مكانة الجغرافيا، حيث لم تقتصر جهودهم على البحث الأكاديمي، بل امتدت لتشمل نشر الوعي العام والتعليمي:

  • تأليف الكتب المدرسية: كرّس العديد منهم جهودهم لتأليف كتب مدرسية عالية الجودة، مما وفّر الأساس المعرفي المنظم لتعليم المادة وجعلها في متناول الطلاب والمعلمين.
  • المحاضرات العامة: حرصوا على إلقاء محاضرات عامة لتشجيع تعليم الجغرافيا ونشر الوعي الجغرافي بين عموم المواطنين. كان هذا بمثابة جهد لتسليط الضوء على أهمية التفكير الجغرافي في فهم القضايا المجتمعية والبيئية.

التحولات النوعية في تعليم الجغرافيا (أوائل القرن العشرين):

في الفترة التي بدأت فيها الجغرافيا تتخذ اتجاهًا تعليميًا أكثر وضوحًا وتنظيمًا في المدارس الأوروبية (أوائل القرن العشرين)، ظهرت ملاحظتان رئيسيتان عكستا تطورًا نوعيًا في أساليب التدريس والمحتوى:

1. الخروج من حجرة الدراسة: التطور نحو الدراسات الميدانية

تُعد هذه الملاحظة هي الأبرز في التطور المنهجي لتعليم الجغرافيا، حيث سُجل تقدم ملموس في الانتقال بالعملية التعليمية إلى البيئة الحقيقية:

  • زيارات الطلاب: بدأ المربون في تنظيم زيارات للطلاب إلى المناطق التي يدرسونها نظريًا. هذه الزيارات كانت تهدف إلى ربط المحتوى النظري بالواقع المشاهَد.
  • التطور إلى الدراسات الميدانية: تطورت هذه الزيارات تدريجياً لتصبح دراسات ميدانية منظمة. تمتاز هذه الدراسات بكونها أكثر عمقًا وتحليلاً، وتتضمن جمع البيانات، والملاحظة المنهجية، وتطبيق المفاهيم الجغرافية على أرض الواقع.
  • الأثر على علم الجغرافيا: لم يقتصر تأثير هذا التطور على جودة التعليم فحسب، بل أسهم بشكل مباشر في تقدم علم الجغرافيا بصفة عامة، حيث أصبح الميدان مصدراً رئيسياً للبيانات والأفكار الجديدة.

2. التركيز على الجغرافيا المحلية والإقليمية:

الملاحظة الثانية تتعلق بمحتوى المنهج، حيث زاد الاهتمام بتدريس الجغرافيا التي تلامس حياة الطالب بشكل مباشر:

  • جغرافية البيئة المحلية: تم التركيز على دراسة جغرافية البيئة المحلية للطالب. هذا النوع من التدريس يُعزز الفهم العميق للمكان الذي يعيش فيه الطالب، مما يجعله أكثر ارتباطًا بالمنهج وأكثر قدرة على تطبيق المفاهيم.
  • جغرافية القطر (الوطن): كما تم زيادة الاهتمام بتدريس جغرافية القطر (الوطن) الذي ينتمي إليه الطلاب. هذا يساعد في بناء الهوية الوطنية، وفهم الموارد والتحديات الإقليمية، وتوفير الأساس اللازم للمواطنة الفاعلة.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال